الحياة البشرية – أو الحياة بصورة عامة – تمتاز بكونها حسّاسةً جدًا للظروف المحيطة، فلو لم یكن الغلاف الجويّ شفافًا للضوء فيما یسمى بالمنطقة المرئية من الطیف الكهرومغناطيسي، ولو لم توفّر الشمس الضوء في تلك المنطقة، فلن تكون لأعيننا أيّ فائدةٍ. ولكن هل يعني هذا أنّ الشمس والطيف الكهرومغناطيسي قد صُمِمَا خصّيصًا بمواصفات دقيقةٍ جدًا تمكّن كلًّا منهما لأن يكون ذا فائدةٍ للعين البشريّة؟

مثال أخر: رياضة الهبوط بالمظلّات(Sky Diving) هي من أمتع ألعاب الهواء، وهي تعتمد على بضعة متغيّرات فيزيائيّة أيضًا، فمن المستحيل أن تكون هذه الرياضة ممكنةً بدون مبدأ الجاذبية، والمظلة (الباراشوت) من المستحيل أن يعمل بدون مبدأ برنولي للرفع (Bernoulli’s principle of lift)، ولكن هل هذا يعني أن مبدأ الجاذبية ومبدأ برنولي قد تم توليفهما بشكل دقيق جدًا لأجل رياضة الهبوط بالمضلات؟

لا يبدو هذا التساؤل منطقيًّا، وقد لا يعتقد القارئ بوجود حججٍ تُبنى للدفاع عن الإجابة بـ “نعم” عليهما، ولكن في حقيقة الأمر، لا تقدّم هذه الحجج بذلك الشكل تمامًا، بل تغلّف بقشرةٍ لغویّةٍ ذات رنينٍ علميٍّ. ومع انتزاع هذه القشرة، لن یبقى لدینا غير محتوى أرقّ من تلك القشرة نفسها.

قد تكون قد سمعت يومًا ما بحجة التوليف الكوني التدقيق Argument of Fine-Tuning، ولربما سمعت بأنها واحدة من أفضل الحجج التي تدلنا على وجود الخالق. بعد أن انتهينا من الحجة السببية والكلامية في المقال السابق – في نقد الحجة السببية والكلامية – المنشور في العدد الثامن عشر من مجلة الملحدين العرب، سنبدأ هنا مع حجة أخرى بتعريفها وعرضها أولاً، ثم سنناقش ما وقعت به من أخطاء ومغالطات منطقية في الجزء الأول من هذه المقالة، وننتقل أخيرًا في الجزء الثاني إلى الأراء العلمية الموثوقة والمصرح بنشرها حيال ما يدعى بـ “التوليف الدقيق”.

مجلة الملحدين العرب: العدد الرابع والعشرون / لشهر نوفمبر / 2014