نفي إعجاز القرآن في قصة أبي لهب في سورة المسد

القرآن توعد أبا لهب بالنار في السورة التي أنزلت خصيصًا له: «سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ»[1]

ليأتي الادعاء الإعجازي بالشكل التالي:

«لو كان محمد مدعيًا كاذبًا، فكيف علم أن عمه سوف يموت كافرًا ولن يتوب؟ أليست هذه مخاطرةٌ كبيرةٌ من كاتب القرآن؟ وألم يكن بإمكان أبو لهب أن يعلن إسلامه في أي لحظةٍ فيضع بذلك محمدًا وقرآنه في مأزقٍ وحرجٍ كبيرين؟ وإذن ألا تدل هذه السورة أن كاتبها هو بالضرورة إلهٌ عظيمٌ عليمٌ يرى غيب المستقبل ويعلم ما في قلوب الناس؟».

هذا الطرح نسمعه كثيرًا جدًا وبشكلٍ متكررٍ من المسلمين، تحت عناوين مثل «الإعجاز في سورة المسد» …إلخ وسنوضح هنا أن الأمر ليس فيه أي معجزةٍ ولا علمٍ بالغيب، بل هو كالعادة مجموعة متهافتة من المغالطات والتلفيقات.

من حيث المبدأ: حتى تكون المسألة معجزة على المسلمين إثبات أن سورة المسد كتبت في حياة أبي لهب حقا، وليس بعد وفاته؛ هذا الأمر – الذي يبدو بسيطًا – مستحيلٌ تأكيده تاريخيًا بأي شكل، إلا بالإحالة إلى المصادر الإسلامية التقليدية التي تذكر أسباب نزول السور والآيات وترتيبها… إلخ

ولكننا ببساطة غير ملزمين بتصديق تلك المصادر!

صحيح أننا نناقشها وغالبًا نقبل مضطرين الاستشهاد بها سلبًا وإيجابًا كوننا لا نملك غيرها لاستيضاح تاريخ نشأة الإسلام، ولكن الأمر يختلف تمامًا حين تكون القضية متعلقة بمعجزة كبرى ودليل على صحة دين – فالمعجزة بالتعريف من صفاتها أن تكون بينةً واضحةً ساطعةً لا تقبل الشك أو اللبس أو الجدل – وذلك حتى تسمى معجزة؛ أما ما يقبل الجدال أو التشكيك من أي وجهة فكيف يسمى معجزة؟ في حالتنا تلك فمن المحتمل جدًا أن السورة كتبت بعد وفاة أبو لهب، ثم لاحقًا تم تزوير سبب نزولها وتبكيره بالقول بأنها نزلت في مكة أول الدعوة، هو احتمال قائم لا يمكن استبعاده ولهذا الخلط فعمومًا لا يصح الاستعانة برواياتٍ تاريخيةٍ جدليةٍ لإثبات المعجزات، بالأخص حين تكون من روايات أصحاب الدين نفسه – وإلا فليستشهدوا لنا بحادثة شق محمد للقمر أو إحياء عيسى للموتى أو قسمة موسى للبحر وتصبح المسألة أسهل!

نكرر أن الروايات التاريخية لا تصلح للاستشهاد بها لإثبات المعجزات، مع ملاحظة أن كثيرٍ من المسلمين أنفسهم يشككون في مصداقية مصادر السيرة والأحاديث والروايات الإسلامية، ويرون أنها غير معصومة بالكامل، أظن هذا وحده يسقط ادّعاء الإعجاز من منبعه. ولكننا مع ذلك سنمضي بافتراض حقيقة القصة وزمن كتابة السورة، وبافتراض صدق المصادر الإسلامية.

اعجاز ابو لهب

إذن، لنقل أن أبا لهب قد أعلن إسلامه، فهل كان ذلك ليهدم مصداقية القرآن تمامًا ويُظهر محمدًا أمام أصحابه بمظهر الكاذب المدعي – وبالتالي يمكن القول إن السورة تعتبر بالفعل مخاطرةً كبيرةً منه؟ نقول قطعًا لا، هذا الأمر لم يكن ليسقط مصداقية محمد في نظر أتباعه بحالٍ من الأحوال، بل لو كان أبو لهب تاب وآمن لكانت هناك ألف وسيلةٍ ووسيلة أمام المسلمين – وأمام محمد نفسه – كي يتفادى الإحراج ويتهرب من المأزق، وسنعدد هنا بعض تلك الوسائل – مع ذكر أمثلة واقعية من القرآن وسيرة محمد تُرينا أن الإسلام بالفعل قد استخدم وسائل التهرب تلك في أكثر من مناسبة، وذلك حتى لا نُتهَّم بالافتراء أو التنظير الخيالي المجرد.

أولًا: لو كان أبو لهب أعلن إسلامه كان يمكن للمسلمين أن يقوموا بإعادة تأويل السورة، حينها سيمكن للمسلمين الرد بالجواب التالي مثلًا: «الآية تقول فعلًا أن أبا لهب (سيصلى نارا) ولكنها لم تقل إنه سيخلد في النار – فرقٌ كبير! بالتالي أبو لهب فعلًا سيدخل النار لفترةٍ مؤقتة، ولكنه في النهاية سيعود إلى الجنة مع سائر المؤمنين» هل مثل هذا الأسلوب من التأويل والترقيع غريبٌ عن الفكر الإسلامي؟ مُطلقًا، بل نجده في كثيرٍ جدًا من حججهم وردودهم على «الشبهات».

محمد نفسه استخدم هذه الطريقة التحايلية في التهرب من نبوءاته ووعوده: هو مثلًا ادّعى أنه رأى رؤيا قبيل غزوة بدرٍ مفادها أن المؤمنين سيواجهون عددًا قليلًا من جنود المشركين (وكان في البداية يتوقع مواجهة قافلةٍ قليلة الحراسة) ثم لما تغيرت الظروف وصارت المواجهة مع الجيش المكي كثير العدد، جاء القرآن مبررًا المسألة بشكل عجيبٍ جدا: «إذ يريكهم الله في منامك قليلًا ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم[2]». أي أن الله خدع نبيه والمؤمنين بهذا الحلم وأراهم الأعداء قليلين عمدًا حتى لا يجبنوا عن القتال[3]!

وهناك واقعةٌ ثانيةٌ شبيهة مرتبطة كذلك برؤيا ونبوءة ثم تراجع عنها، وهي حين وعد محمد أتباعه – قبيل صلح الحديبية مباشرةً – أنهم سيدخلون المسجد الحرام في مكة آمنين محلقين رؤوسهم حسب ما أراه الله في الرؤيا، التي سجلها القرآن ثم لما تأزمت الأوضاع ورفضت قريش السماح لهم بدخول المسجد هذا العام، نكث محمد عما وعد به وأمر أصحابه بالرجوع إلى مكة دون حج، وحين واجهه عمر بن الخطاب بما كان وعدهم به رد محمدٌ عليه: «أفأخبرتك أن نأتيه العام؟»[4] يعني أنني لم أقصد أن الدخول سيكون هذا العام بل ربما العام التالي! وهو تحايلٌ واضح، الخلاصة أن الإسلام يستخدم الخداع وإعادة تأويل نبوءاته وتعهداته بحيث يتمكن من التراجع عنها وقتما يشاء، والمسلمون يستخدمون التلاعب بالتفاسير – كما نرى كل يوم – لليِّ عنق النصوص لصالح الدفاع عن دينهم، ولو كان أبو لهب أسلم كان يمكن لمحمدٍ أو المسلمين من بعده اللجوء بسهولة لنفس هذا الأسلوب الذي طالما لجأوا له.

ثانيا: لو كان أبو لهب أعلن إسلامه كان يمكن لمحمد أن يرجع في كلامه ويقبل توبته، كما رأينا في السيرة فمحمدٍ بالفعل تراجع في كثيرٍ من الأمور، دون أن يسبب هذا له أيّ حرج، وبالإضافة للتراجع باستخدام أسلوب إعادة تأويل الوعد بشكلٍ مغايرٍ – مثلما شاهدنا في رؤيا الحديبية – فهناك كذلك التراجع الصريح وإحلال حكمٍ مكان حكم، وقد مُورِس هذا كثيرًا حتى صار للأمر مصطلحًا مستقلًا في علوم الفقه يسمى «النسخ» – وهو ببساطة أن يغير الله (أو بالأحرى محمد) رأيه في قضية من القضايا فيتراجع عن كلامه السابق.

اعجاز ابو لهب

بهذا رأينا الله يصرّح مثلًا مرة للمسلمين بأنه «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين من الذين كفروا»[5]، ثم عاد لاحقًا وقال «لا لا، لقد علم الله أن فيكم ضعفا فخفف عنكم، فالآن إن يكن منكم مائة يغلبوا مائتين»[6].

وقد كان قيام الليل مفروضًا على المسلمين، ثم أيضًا «علم الله» أنه سيكون منهم مرضى فتاب عليهم وألغى الفرض[7] وفي بداية الصيام كانت فترة الإفطار ممتدة فقط حتى العشاء أو النوم، ثم «علم الله» أن الصحابة كانوا يختانون أنفسهم (أي يخرقوا الصيام بأن يأكلوا ويعاشروا زوجاتهم بعد النوم والاستيقاظ) فخفف الأمر ومدد زمن الإفطار إلى الفجر[8] والصلاة في البداية كانت توجه لبيت المقدس، ثم لما رأى الله تقلب وجه محمدٍ في السماء ولّاه قبلةً يرضاها وهي المسجد الحرام[9].

اعجاز ابو لهب

ونجد القرآن يتدرج في تحريم الخمر على عدة مراحلٍ كل واحدةٍ تجب السابقة[10] ومحمدًا نهى أصحابه عن أشياءٍ عديدةٍ ثم أعاد تحليلها، كزيارة القبور[11] وشرب النبيذ غير المسكر في الأوعية[12] وغيرها، وهو أقرّ زواج المتعة ثم نهى عنه عدة مرات[13] وذلك رغم أنه مذكور في القرآن[14] وسمح بضرب الزوجات ثم نهى عنه ثم عاد فأقرّه[15] والقائمة تطول، حتى أن الفقهاء يقسمون النسخ إلى أقسامٍ عديدةٍ متنوعةٍ: فهناك نسخ الحكم وبقاء التلاوة (مثل آيات المصابرة التي ذكرناها في البداية)، وهناك نسخ التلاوة وبقاء الحكم (مثل حد الرجم، ومثل تحديد أخوة الرضاعة بخمس رضعات)، وهناك نسخ الإثنين معا (مثل تحديد أخوة الرضاعة بعشر رضعات) وهناك نسخ القرآن بالقرآن (مثل آيات المصابرة مثل مراحل تحريم الخمر)، ونسخ القرآن بالسنة (مثل حديث لا وصية لوارث) ونسخ السنة بالقرآن (مثل تحويل القبلة) ونسخ السنة بالسنة (مثل ما قلنا في زواج المتعة وزيارة القبور).

إذن على ما يبدو فالله ورسوله يغيران رأيهما كثيرًا جدًا وبأشكالٍ متنوعة، سواءً في الأحكام الشرعية، أو حتى في الخبر وتقرير حقائق (كآيات المصابرة) وطبعا المسلمون كالعادة لديهم تبريرات تأويلية جاهزة لمثل هذه التراجعات والتبديلات، بعد هذا كله؛ هل نصدّق حقًا أن الله ورسوله كانا سيكونان في موضع حرجٍ لو كان أبو لهب قد أعلن إسلامه؟ أم أن الحكم كان سينسخ والوحي كان سينزل ببساطة قائلًا مثلًا: «…الآن علم الله أن أبا لهب قد تاب وآمن فغفر له والله غفور رحيم…إلخ»؟

ثالثًا: لو كان أبو لهب أعلن توبته، كان يمكن لمحمد أن يرفضها، أو يتهمه بالكذب، نلاحظ أن سورة المسد لم تذكر أن أبا لهبٍ لن يعلن إسلامه أبدًا طوال حياته، وإنما هي قالت إنه سيدخل النار، فهل كل من أعلن إسلامه سينجو بالضرورة من النار؟ لا، ليس شرطًا، بل هناك استثنائين رئيسيين لهذا حسب الفكر الإسلامي: الأول هو أن يسلم الإنسان بعد ما يسمى بـ «غلق باب التوبة»، والثاني هو اعتبار الشخص منافقًا أي أنه قد أعلن الإيمان بلسانه فقط لكنه كافرٌ بداخله – في هاتين الحالتين يمكن أن نضع الشخص في النار حتى ولو أعلن إسلامه؛ إذن لو كان أبو لهب قد أعلن إسلامه فكان يمكن لمحمد بسهولة – تفاديًا للإحراج – الاستمرار بالقول أنه في النار عن طريق تصنيفه في واحدة من هذين التصنيفين – وبذا تظل الآية صحيحة! ولدينا أمثلة واقعية على مثل هذا، منها فرعون موسى الذي تاب ولكن لم تقبل توبته، ومنها المنافقون في المدينة كعبد الله بن أبي سلول وغيره من الذين كانوا يجهرون بالإسلام لسانًا ولكن مع ذلك اعتبرهم القرآن من المنافقين قلبًا ووضعهم في الدرك الأسفل من النار، وسنذكر قصة أحدهم بشيءٍ من التفصيل لأهميتها.

قصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري تنسف الإعجاز المزعوم لقصة أبو لهب

 لنقرأ معًا الآيات التالية من سورة التوبة (وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ – فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ – فَاعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ ًاخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ)[16] ونقرأ سبب نزول الآيات – من تفسير الطبري للآية: (عن ابن عباس قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ….}، وذلك أن رجلًا يقال له ثعلبة بن حاطب من الأنصار، أتى مجلسًا فأشهدهم، فقال: لئن آتاني الله من فضله، آتيت منه كلّ ذي حقّ حقه، وتصدّقت منه، ووصلت منه القرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف الله ما وعده، وأغضب الله بما أخلف ما وعده، فقصّ الله شأنه في القرآن: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ….} الآية، إلى قوله: {يَكْذِبُونَ}).

إذن فثعلبة هذا تعهد إن آتاه الله مالًا ليتصدق به، ثم لما جاءه المال نكث بوعده وبخل، فنزلت الآيات تدينه وتقرر أنه سيلقى الله منافقًا، وسيدخل النار، ممتاز ولكن المفاجأة أن ثعلبة ندم بعدها وأعلن التوبة! نعود إلى تفسير الطبري: (فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته….). الرجل تاب وعاد إلى محمدٍ يسأله المغفرة، فماذا فعل محمد؟ ببساطة رفض قبول توبته ورد عليه أمواله! نكمل: (…. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته… فقال: «إنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أنْ أقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ» فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا عَمَلُكَ، قَدْ أمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي» فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجع إلى منزله، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئًا).

هكذا لدينا هنا حالة مشابهة تمامًا لحالة أبي لهب لو كان أسلم! ونجد فيها أن محمدًا لم يصادف أي حرجٍ مطلقًا في أن يرفض قبول توبة الرجل – فمهما أعلن صاحبنا إيمانه وبكى وندم أو استغفر، فمازال بإمكاننا القول بأن ثعلبة تاب بعد أن أغلق باب التوبة أو لنقل إنه منافق أو أن الله رفضه لأي سبب آخر – المهم أنه في النار كما وصمه القرآن.

هذه القصة وحدها كافية تمامًا للرد على دعوى الإعجاز أو تضمن المسألة لأي نوع من المخاطرة من قبل محمد، فلو كان أبو لهب قد أعلن إسلامه لكان بإمكان محمد بكل سهولة أن يسلك تجاهه نفس السلوك الذي سلكه تجاه ثعلبة، فيعتبره منافقًا ويرفض توبته – ومن ثم يظل أبو لهب من أصحاب النار ويظل القرآن معصوما من الخطأ.

المزيد ممن توعدهم القرآن بالنار أسلموا لاحقا

ونضيف أن حالة ثعلبة ليست الوحيدة لمثل ذلك، بل نجد حالات أخرى نزلت فيها آيات قرآنية تتوعد أناس بعينهم بالنار، ثم أسلم هؤلاء لاحقًا. ومع ذلك لم يشعر محمدٌ بأي حرجٍ من المسألة، ولم نجد المسلمين يقرون بانهيار مصداقية القرآن، ويخرجون من دين الله أفواجا! هناك مثلا القصة الشهيرة لعبد الله ابن أبي السرح الذي كان كاتبًا للوحي وارتد عن الإسلام، وأيضًا توعده القرآن بالنار[17] ولكن أبا السرح تاب وأعلن إسلامه وتركه محمد فلم يقتله[18] بل إن عثمان ابن عفان قد ولاه على حكم مصر، فهل يرى المسلمون مأزقا في تلك الآيات؟ قطعا لا، بل يمكن التغلب على المشكلة بأي وسيلةٍ من الوسائل التحايلية التي أشرنا لها: إما بإعادة تأويل النص بشكلٍ يزيل الحرج، وإما بالقول إن الرجل لم يسلم بصدق بل هو منافق…

وهناك ثالث هو الوليد بن عُقبة، الذي أيضا نزلت فيه آية تعلن أنه من أهل النار[19] ثم إن الرجل (الذي يقال أيضًا أنه نزلت فيه آية أخرى هي «إذا جاءكم فاسق بنبأ…») قد تاب وأسلم عام الفتح وصار من كبار الصحابة، وتولى لاحقًا حكم الكوفة (بتولية عثمان أيضا)[20] فما رأيكم؟

وهناك أبو سفيان، والذي يقال إنه نزلت فيه آية أيضًا تتوعده بالنار[21] [22] [23] لكن أبو سفيان أسلم وقت الفتح أيضا كما هو معلوم.

فهل انهار الإسلام بإسلام هؤلاء ومناقضتهم للقرآن؟ هل ظهر كذب محمد؟ هل أحرج المسلمون إلى يوم القيامة؟ لا. كذلك، لم يكن إسلام أبو لهب ليمثل حالةً جديدةً أو فريدةً أو محرجةً لمحمدٍ أو أتباعه كما قد نتوقع – فكم من حكمٍ نسخ وكم من نصٍ تمت إعادة تأويله، بل وكم من شخص توعده القرآن بالنار ثم عاد فأعلن توبته.

كما رأينا محمد وعد كثيرًا وأخلف وتراجع وغير كلامه في مواقفٍ لا حصر لها، وبالتالي لم يكن يضيره ولا يضير أتباعه تراجعًا إضافيًا، بل هو في أول دعوته توعد قريشًا صراحةً بصاعقةٍ من الله تصيبهم إن هم كذّبوا به: (فَإِنْ ًاعْرَضُوا فَقُلْ ًانذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) – فصلت 13 ولم تؤمن قريش، ولم تنزل الصاعقة! ورغم هذه السقطة الفضائحية وغيرها كثير، إلا أنه مرةً أخرى لم يظهر كذب محمدٍ للمسلمين ولم نرهم ارتدّوا عن دينهم أفواجا!

والحقيقة أن جميع السقطات والتراجعات والأخطاء والتناقضات في العالم كله لن تؤدي أبدًا لأن يتم فضح الإسلام في أعين المسلمين ولن تؤدي إلى انهيار الدين وترك المسلمين لدينهم، وهذا ببساطة لأن الدين لم يُبنَ على المنطق والدليل والبرهان أصلًا، حتى يتم هدمه عن طريقها، باختصار عزيزي المسلم أنت لم تدخل الإسلام بعقلك حتى تخرج منه بعقلك – بل دخلته بالعاطفة وبالترهيب وقبل هذا بالوراثة والتنشئة، بالتالي لا يهم حقًا إن كان أبو لهب قد أعلن إسلامه أم لا، في كل الأحوال لم تكن لتترك دينك أو تكتشف زيفه – في أسوأ الأحوال ستكون القصة عندك مجرد «شبهة» إضافية تنضم لكومة التهم والشبهات حول الإسلام التي تسعى للرد عليها وتبريرها طوال الوقت، أساليب التحايل والترقيع موجودةٌ ومتاحةٌ دائما ويستخدمها المؤمنون طوال الوقت لمحاولة ستر عورات أديانهم، ولو لم يوجد محمد لنفسه تبريرًا في المسألة لأوجد المسلمون له ألف تبرير.

اعجاز ابو لهب


الهوامش:

[1]  سورة المسد 3.

[2]  سورة الأنفال 43.

[3]  القصة بأكملها موجودة في تفسير الطبري (وغيره) للآية 7 من سورة الأنفال.

[4]  من صحيح البخاري– الصفحة أو الرقم 2731 (فقال عمرُ بنُ الخطابِ: فًاتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقُلْتُ: ألستَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى. قلتُ: ًالَسْنَا على الحقِّ، وعدوُّنَا على الباطلِ؟ قال: بلى. قلتُ: فلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دينِنَا إذًا؟ قال: إني رسولُ اللهِ، ولَسْتُ ًاعْصِيه، وهو ناصرِي. قلتُ: ًاوَلَيْسَ كنتَ تُحَدِّثُنَا ًانَّا سنأتي البيتَ فنَطُوفُ به؟ قال: بلى، فًاخْبَرْتُك ًانَّا نَأْتِيه العامَ؟ قال: قلتُ: لا).

[5]  سورة الأنفال 65.

[6]  سورة الأنفال 66 ومن تفسير الطبري للأنفال 65 يقول ابن عباس (لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين ومئة ألفا، فخفف الله عنهم، فنسخها بالآية الأخرى).

[7]  سورة المزمل 20، وتوضيح حدوث النسخ في تفسير الطبري (عن قتادة، قوله: {فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} يقول: فاقرأوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم وهذا تخفيف من الله عزّ وجلّ عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إلًا قَلِيلًا نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}).

[8]  سورة البقرة 187. ومن تفسير الطبري أيضا: (عن معاذ بن جبل، قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لـم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعام والشراب وإتـيان النساء، فكان رجل من الأنصار يدعى أبـا صرمة يعمل فـي أرض له، قال: فلـما كان عند فطره نام، فأصبح صائمًا قد جهد، فلـما رآه النبـي صلى الله عليه وسلم قال: «ما لـي ًارَى بِكَ جَهْدًا؟». فأخبر بـما كان من أمره. واختان رجل نفسه فـي شأن النساء، فأنزل الله {أُحِلَّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ}.

[9]  البقرة 144.

[10]  عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي اللهُ عنه قال: لما نزلَ تحريمُ الخمرِ قال: اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شافِيًا فنزلت هذه الآيةُ التي في سورة البقرة {يَسالُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال: فدُعِى عمرُ رضي اللهُ عنه فقُرِئتْ عليه فقال: اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمر بيانا شافيًا فنزلت الآية في سورة النساء {يَا ًايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَانْتُمْ سُكَارَى} فكان منادي رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أقام الصلاةَ نادَى لا يقْرَبَنَّ الصلاةَ سكرانٌ فدُعِي عمرُ رضي اللهُ عنه فقُرِئَتْ عليه فقال: اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شافيًا فنزلت الآيةُ التي في المائدَةِ فدُعِي عمرُ رضي اللهُ عنه فقُرِئَتْ عليه فلما بلغَ {فَهَلْ ًانْتُم مُّنْتَهُونَ} قال: فقالَ عُمرُ: انتَهَينَا انتهيْنَا الراوي: عمرو بن شرحبيل المحدث: أحمد شاكر – المصدر: مسند أحمد – الصفحة أو الرقم: 1/185 خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح.

[11] كنتُ نهيتُكم عن زيارةِ القبورِ فزُوروا القبورَ فإنَّها تُزهِّدُ في الدُّنيا وتُذكِّرُ الآخرةَ الراوي: عبد الله بن مسعود المحدث: المنذري – المصدر: الترغيب والترهيب – الصفحة أو الرقم: 4/273 خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح.

[12]  كنتُ نهيتُكم فانتبِذوا فيما شِئتُمْ، أو فيما بَدا لكمْ الراوي: – المحدث: ابن عبدالبر – المصدر: الاستذكار – الصفحة أو الرقم: 4/235 خلاصة حكم المحدث: روي من طرق متواترة.

[13] أنَّ نكاحَ المتعَةِ أباحَهُ اللَّهُ تعالى ثُمَّ نسخَهُ ثُمَّ أباحَهُ ثم نسخَهُ ثُمَّ أباحَهُ ثُمَّ نسخهُ إلى يومِ القِيامَةِ الراوي: – المحدث: ابن حزم – المصدر: أصول الأحكام – الصفحة أو الرقم: 1/494 خلاصة حكم المحدث: [رويناه] بأصح أساني.

[14] حسب ما يقول الشيعة وكذلك رأي بعض أهل السنة، والآية المقصودة هي سورة النساء 24 (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) من تفسير ابن كثير للآية (وقد استُدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون: أكثر من ذلك. وقال آخرون: إنما أبيح مرة، ثم نسخ مرة، ثم نسخ، ولم يبح بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك).

[15] من تفسير ابن كثير لقوله (وإضربوهن) النساء 34: (قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن، فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم»). وعن علي، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت: يا رسول الله، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس له ذلك» فأنزل الله تعالى: {ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ} أي: في الأدب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أردت أمرًا، وأراد الله غيره».

[16] سورة التوبة 75– 77.

[17] {وَمَنْ ًاظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا ًاوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ ًانَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ ًايْدِيهِمْ ًاخْرِجُوۤاْ ًانْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الأنعام 93. من تفسير الطبري للآية: {وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ الله} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، أخي بني عامر بن لؤي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يُملِي «عزيز حكيم»، فيكتب «غفور رحيم»، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول: «نَعَمْ سواء» فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينزل عليه «عزيز حكيم»، فأحوّله ثم أقول لما أكتب، فيقول نعم سواء… ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة).

[18] (وأمَّا عبدُ اللَّهِ بنِ أبي السَّرحٍ؛ فإنَّهُ اختبأ عند عثمانَ بنِ عفَّانَ فلمَّا دعا رسولُ اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – النَّاسَ إلى البيعةِ جاءَ بهِ حتَّى أوقفَه على رسول الله – صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – فقال يا رسولَ بايِعْ عبدَ اللَّه فنظر إليهِ ثلاثًا كلُّ ذلِك يأبى فبايعَه بعدَ ثلاثٍ ثمَّ أقبلَ على أصحابِهِ فقال أما فيكم رجلٌ رشيدٌ يقوم إلى هذا حين رآني كففتُ يدي عن بيعتِه فيقتلُه فقالوا وما يُدرينا ما في نفسك يا رسولَ اللَّهِ هلا أومأتَ إلينا بعينِك قال إنَّهُ لا ينبغي لنبيٍّ أن تَكونَ لهُ خائنةُ الأعينِ) الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث: عبد الحق الإشبيلي – المصدر: الأحكام الصغرى – الصفحة أو الرقم: 549 خلاصة حكم المحدث: [أشار في المقدمة أنه صحيح الإسناد].

[19] سورة (وَامَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ ًارَادُوۤاْ ًان يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) السجدة 20 من تفسير الطبري للآية: (وذُكر أن هذه الآية نزلت فـي علـيّ بن أبـي طالب، رضوان الله علـيه، والولـيد بن عُقبة… عن عطاء بن يسار، قال: نزلت بـالـمدينة، فـي علـيّ بن أبـي طالب، والولـيد بن عقبة بن أبـي معيط كان بـين الولـيد وبـين علـيّ كلام، فقال الولـيد بن عقبة: أنا أبسط منك لسانًا، وأحدّ منك سنانًا، وأردُّ منك للكتـيبة، فقال علـيّ: اسكت، فإنك فـاسق، فأنزل الله فـيهما: {أفمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كمَنْ كانَ فـاسِقًا لا يَسْتَوُونَ….} إلـى قوله {بِهِ تُكَذّبُونَ}.

[20]  البداية والنهاية لابن كثير – الجزء الثامن – باب الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

[21] (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ ًامْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) الأنفال 36. من تفسير الطبري للآية: (عن سعيد بن جبـير، فـي قوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ….} الآية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلـى جَهَنَّـمَ يُحْشَرُونَ} قال: نزلت فـي أبـي سفـيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفـين من الأحابـيش من بنـي كنانة.

[22] عن الـحكم بن عتـيبة: {إنَّ الَّذِبنَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدُّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ} قال: نزلت فـي أبـي سفـيان، أنفق علـى الـمشركين يوم أُحد أربعين أوقـية من ذهب.

[23] عن مـجاهد، فـي قول الله: {يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدُّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ….} الآية، حتـى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ} قال: فـي نفقة أبـي سفـيان علـى الكفار يوم أُحد.

مجلة الملحدين العرب: العدد الخامس عشر / شهر فبراير / 2014