يبدأ أقوى استدلال عند المتدينين على وجود الله بقانون السببية الذي يبنون به فرضيتهم التي يتراوج الاستدلال عليها بين العقلانية والإيمانية، ويعنينا في هذه المحاورة النقدية فقط ما يتعلق بالعقل لأن ما يتعلق بالإيمان لا يعدو كونه تهيؤات نفسية يقع على عاتق أطباء وعلماء النفس التعامل معها بحرفية وعلمية.
يحاول المتدينون النصف عقلانيون أن يصيغوا استدلالهم بالسببية على المنوال التالي:
“إن لكل شيء محدث سببا، والكون محدث، إذا له سبب، ذاك السبب هو الله”
تبدو هذه الجملة ذات قيمة منطقية كبيرة فهي تنطلق من مقدمة أولى ـ متفق عليها شيئا ما ـ ثم مقدمة ثانية ـ متفق عليها ـ ثم نتيجة سليمة، لكن رغم ذلك حتى حين كنت مؤمنا كانت بساطتها هذه مقلقة بالنسبة لي، هل بهذه البساطة الاستدلالية يحق لنا أن نقتل ونذبح ونعاقب ونهجر باسم الدين؟ هل تتضمن هذه الجملة كل ذلك المعنى وتلك القوة التي تعطينا “سببا” منطقيا كافيا لنصدق كل ما قيل في دين معين ـ مهما كان دينك؟ للنظر في الأسئلة السابقة اقترحت على نفسي أن أقوم بتفكيك الجملة السحرية العظمى لدى الدين وهو تماما ما سأستعرضه فيما يلي من المقال:
إن لكل شيء محدث سببا … حقا؟
إن قانون السببية أصلا هو قانون تجريبي وليس عقلاني، أي أنه جزء مكتسب من قوانين الطبيعية عن طريق الملاحظة والاستنتاج وليس من الثوابت العقلية كما يحاول بعض ضعاف الفهم في الفلسفة ترويجه، فهو ليس مثل العمليات الحسابية المدركة عن طريق العقل بشكلها الإطلاقي، ومادام تجريبيا فهو يقع تحت طائلة النسبية وخاضعا لما سيكون عليه الشكل النهائي لركام التجارب في التاريخ البشري القصير، على أنه ليس مطلقا فكيف يتم استخدامه في الاستدلال على الله ـ الذي يصفه المتدينون بالمطلق ـ، وهذه استحالة رياضية أن تقابل في معادلة غير متجانسين وغير متكافئين.
وإذا أدخلنا قانون السببية في السياق التجريبي، فإن التجريبية علمتنا أن التجارب المتكررة تعطي دائما نتائج متغيرة وإن بشكل طفيف، تجربتنا الأولى للخلية أعطتنا فهما أنها الجزء الأصغر في الكائن الحي، ثم أضافت التجربة الثانية أنها مكونة من نواة وهكذا، ولا زالت التجارب تعطينا نتائج مختلفة حول الخلية وكذلك قانون السببية فهو كان يعطينا قديما أن هناك إلها خارقا تدخل بشكل مباشر ـ بيديه ـ وخلق الأرض وجعل عليها سقفا من الشمع الأزرق وأنجب أطفالا جعلهم متخصصين في تخصصات محددة، لقد أعطانا قانون السببية هذا الفهم “بسبب” اتساع رقعة جهلنا بما يحدث، لذلك أحدثنا تلك الفرضيات ـ أولا ـ لإرضاء التوق المعرفي الطبيعي للإنسان، ثم بدأ ذلك الإله الخرافي ينسحب من حقل التجربة فاسحا المجال للأسباب المباشرة التي أعطاها لنا العلم وظل المتدينون يتفرجون على العلم إلى أن يتوقف عند حدود معينة فيقومون بوضع إشارات لبداية حدود مملكة الله ـ أي ما هو مجهول عندنا ـ وظل العلم يخترق تلك الإشارات ليضيق مساحة الله حتى بقي كل شيء يتعلق بالسببية غامضا وغير مباشر بالنسبة للعقل العالم أو متوسط العلم على عكس ما كانت عليه قديما من الوضوح للعقل المغلف بالجهل .
في السياق التجريبي أيضا يعلمنا العلم أن كل شيء يحدث ليس نتاجا البتة لسبب معين بل إن كل شيء يحدث نتيجة لمحصلة كم هائل من الأسباب المتفرقة وكلما ابتعدنا في سلسلة السببية كلما تضخمت الأسباب وكثرت وتشعبت وبدأت تختفي في عالم المجهول، ولا غرابة حينها أن يدعي متدين أو رجل دين أن ما نجهله من أسباب طبيعية وعلمية ليس سوى الله، فالله حسب فهمي يوجد دائما الفضاءات المجهولة والمظلمة ولا وجود له فيما أضاءته شمعة، ما أريد الوصول إليه من الإشارة السابقة بخصوص تعدد الأسباب أنها تحطم الجملة المنطقية الأولى تماما فليس هناك سبب واحد لأي شيء وبالتالي لا وجود لسبب واحد لكل شيء فالمنطق الرياضي يفرض هنا أن دائرة الأسباب تتسع ومن المستحيل منطقيا أن تتسع لتنتهي في سلسلة الاتساع تلك إلى سبب واحد .
والكون محدث… كيف ذلك؟
إن كل ما نعرف عن الكون هو قليل جدا وهو ما يجعل الكثير من النظريات منطقية ومتساوية تماما لا يمكن ترجيح إحداها عن الأخرى، الغالب أن هذا الكون الذي نعرفه اليوم أتى من انفجار كبير ـ بكل ما تحمل تلك العبارة من تفاصيل ـ، لكن من أين أتى هذا الانفجار؟
في الوقت الذي يبذل فيه العلماء جهودا كبيرة في سبر أغوار ذلك اللغز الكبير متسلحين بالشك في كل شيء إلا ما أثبته العلم وبالتخلي عن كل أفكار مسبقة قد تشوش أمانتهم العلمية، في الوقت نفسه يتكئ رجال الدين على أرائكهم الوثيرة في كسل قائلين أن هذا الانفجار من فعل الله، تماما كما في الماضي حين كانوا يفسرون الرعد والبرق على نفس المنوال وحين كانوا يظنون أن الأنسان تمت صناعته من الطين في السماء ودخل الجنة ـ الخرافية.
الحقيقة أن كل ما نعلمه اليوم عن الانفجار الكبير هو ضخامة اللغز وتعقده وضخامة الكون وتفاهة هذه الأرض التي لا تعدو كونها حدثا عرضيا في الكون شأنها شأن دخان سجائر رجل في القاهرة مقارنة بحصيلة التفاعلات النووية في الشمس، أي أنها بلا فائدة بالمرة غير أن فيها أشخاصا مفعمين بالخيال وميالين إلى تقديس الجهل في جعلهم إلههم دائم التنقل إلى النقاط المجهولة وآخرين يعملون في خدمة العقل والعلم.
إن التعقيد الكبير الذي نلمسه مما يصلنا من معلومات نشأة الكون قد يراه بعض المتدينين دليلا على وجود إله هو من صنعه بدقة لكنه يبقى تفسيرا بسيطا وساذجا وتضليليا، فقوانين الطبيعة هي التي صنعت التوازن داخل الكون وأنا على يقين أن هناك سائلا يسأل، ومن صنع قوانين الطبيعة؟ وهذا سؤال أجهل الإجابة عليه تماما ولا أوافق على طرحه كسؤال منطقي، تماما كما يجهل كل رجال الدين الإجابة على السؤال: من صنع الله؟ ولا يوافقون على طرحه.
منشورات ذات شعبية