في حوار مع: سيد القمني

ولد المفكر والباحث العلماني سيد القمني في مدينة الواسطى محافظة بني سويف المصرية في آذار/مارس عام 1947، ولقّب بالقمني نسبةً الى مسقط رأس العائلة، وحصل على أول شهادةٍ له وهي إجازةٌ في الفلسفة من جامعة عين شمس، كما يُعتبر باحثًا في الأديان وخصوصًا التاريخ الاسلامي، وعندما قال العظيم نجيب سرور: “يأتي من بعدك – ياخلي – من بعدي، مَن يحكِ أنّا لم نَحْنِ فى الليل اللّوطيِّ ظهورًا، يأتِ من بعدي مَن يحكِ بأنّا كنّا في الزمنِ المأبونِ فُحولاً.” كان يعني سيد القمني الذى لم يَحْنِ فى الليل اللوطيّ ظهره، فأصبح فارس الفكر فى عالمنا المعاصر، وحامل راية الشهادة بعد صديقه فرج فودة، وإذ لا نريد أن نُطيل، دعونا نرحب بضيفنا الكريم: أهلًا بك دكتور سيد.

بعيدًا عمّا قدمناه أعلاه، أخبرنا من هو سيد محمود القمني؟

سيد القمني هو مواطنٌ مصريٌّ نشأ في بيتٍ متدينٍ لأبٍ أزهريٍّ يعمل بالتجارة، وعندما درس الفلسفة بالمرحلة الثانوية اكتشف عالمًا من الدّهشة واللّذة الذّهنية التي كان يمارسها في عشق علوم الرياضيات، فاختار دخول قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، لأنه في ذلك الزمان كانت المدرسة تؤدّي دور التعليم الحقيقي فكان مؤلف كتاب الفلسفة للمرحلة الثانوية هو رئيس قسم الفلسفة بجامعة القاهرة الدكتور توفيق الطويل أحد أعمدة الفكر الفلسفي في منطقتنا.

ودرس القمني في عين شمس على يد أقطاب الفلسفة العظام فكان رئيس القسم هو المدرسة المتكاملة، الدكتور عبد الرحمن بدوي، وتلاه الدكتور فؤاد زكريا رئيسًا بعد سفر الدكتور بدوي إلى الكويت، مع كوكبةٍ من الفلاسفة، منهم الدكتور إمام عبد الفتاح إمام والدكتور رجب أحمد رجب والدكتور عزمي إسلام والدكتور حسن حنفي، بالإضافة إلى علاّمة علم النفس الدكتور مصطفى زيور والدكتور نازلي إسلام، وغيرهم ممن بقوا حتى الآن بلا منافسٍ جديدٍ مما يحزنك على ما آل إليه حال الجامعات المصرية.

تخرج القمني في عام 1969 وعمل مدرسًا للفلسفة في المرحلة الثانوية بقنا، بصعيد مصر، ثم سافر للعمل بالكويت وهناك استكمل مشواره العلمي للدراسات العليا بالجامعة اليسوعية ببيروت، وكان ذلك بإشراف الدكتور أسعد علي الشيخ، وقدم بحثه للماجستير بإشراف الأب الدكتور ميشيل آلار (وهو فرنسيٌ وأستاذٌ بجامعة ليون وباليسوعية)، وبعدها أنهى الدكتوراة بإشرافٍ من الدكتور فؤاد زكريا الذي كان وقتها رئيسًا لقسم الفلسفة بجامعة الكويت بموجب اتفاقٍ مع اليسوعية كأستاذٍ مشرفٍ مقيم، لكنّه تعذّر إيجاد جامعةٍ بديلةٍ لليسوعية للمناقشة، فرفض الدكتور زكريا المناقشة بجامعة بغداد لموقفه من نظام صدام حسين بعد موافقة الجامعة على المناقشة لديها، بينما كانت بيروت تغلي بالحرب الأهلية بما لايسمح بنزولها أصلاً.

حينها، قدّم القمني أوراقه لجامعة جنوب كاليفورنيا مشفوعة بترجمةٍ كاملةٍ وتقرير الدكتور فؤاد بالعربية والانجليزية وهي التي ثار عليها لغطٌ من أعداء فكر سيد القمني لتشويهه، ولم يعد الأمر هامًا في نظره بعدما استوى على مقعده بين علماء الوطن وقدم مجموعة من الأبحاث والأعمال يرقى كلٌّ منها إلى درجاتٍ عظمى أقرّ بها أساتذة الفكر في العالم العربي، هذا بينما كان يكتبُ أثناء ذلك للدوريات الكويتية على التواتر، ويكفي كتاب الإسلاميات لأكثر من دكتوراه وكتاب الأسطورة والتراث لعشر درجات بينما أرشّح كتابي النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة للفوز بجائزة نوبل لمن يستطع أن يوصل الكتاب ترشيحًا وعرضًا ودعمًا؛ فهل تفعلوها؟

دكتور سيد القمني، لو عاد بك الزمان هل كنت ستعيد تجربة القمني وتلقي بكل أثقالك فى بحيرة الفكر الميت؟ أم ستختار أن تعيش بسلام كربّ أسرة؟

كنت سأختار الاستمرار في عشق الرياضيات وأعتقد أنّي كنت سأقدم منها ما يفيد بلادي، وما حدث معي من فجورٍ مجرمٍ، ولعيالي من أوجاعٍ وكوارث ومآسٍ فوق احتمال أيّ بشر، يجعلني أشك في إعادة الكَرّة، بل ربما لو سُئلت هل تحبّ أن تُولد مرةً أخرى فإنّ إجابتي ستكون قطعًا بالرفض الساخر والغاضب.

نعلم أنّ قتل فرج فودة أثّر فيك بشدّة لليوم؛ بصراحة، ألم تُفكر في التراجع إن لم يكون خوفًا على شخصكَ الكريم، فعلى الاقل على أسرتك الرائعة؟

دعوني أخصّكم بمن هو فرج فودة في شهادةٍ ربما لا يعرف تفاصيلها غيري، على المستوى الإنساني الشخصي، وعلى مستوى القلم المقاتل، لأنّ مسألة تراجعي أمرٌ محسوم، ولم يبقَ في العمر كثيرٌ حتى أحرص عليه وطعم الموت في أمرٍ عظيم كطعم الموت في شأنٍ حقير.

في لحظةٍ فارقةٍ في عمري، نشرت رسالتي بدار «فِكْر» بمدينة نصر وكان صاحبها الماركسي الدكتور طاهر عبد الحكيم، وكان عنوان الكتاب «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة» في الوقت الذي كان فيه فرج ينشر كتابه الأهم «الحقيقة الغائبة» بذات دار النشر، وكان الدكتور طاهر عبدالحكيم يهتم بإنشاء علاقة صداقةٍ بكُتّابه، كان كريمًا دمثُ الخُلق وكاتبًا أيضًا، وله كتابٌ هامٌ بعنوان (شخصية مصر)، وكان قد أنشأ أهمَّ مجلّةٍ مُحكّمةٍ في ذلك الوقت، وكان اسمها «فِكْر»، وكتب فيها كبارُ كُتّابِ ذلك الوقت، ونُشرت فيها أهمّ دراساتي التي جمعتها بعد ذلك في كتابي «الأسطورة والتراث».

كنتُ قد قرأت لفرج أهم كتابٍ في زمانه ويظل كذلك مهما طال الوقت، ألا وهو كتابه «قبل السقوط»، وقد تمنيت لقاءه وتحقق التمني عندما اتصل بي الدكتور طاهر وأنا حينذاك أعيش في مدينة الواسطى ليخبرني بدعوة الدكتور فرج لي ولطاهر على العشاء بفندق البارون.

وهناك بدأت قصة أنبل حبٍّ لأنبل رجلٍ عرفته عبر رحلة عمري الطويلة، مصريٌّ حتى ظله، عاشقٌ للوطن.. بتوله غراميٌّ لا يعرفه إلاّ من عانى السهاد هيامًا وغرامًا وكَابدَ العشق الرّاقي؛ لقد كان فرج علي فودة عملاق البدن، سليمَ الصحةِ والنفسِ بدرجة مئةٍ بالمئة، يُقبلُ على الدنيا وينهل منها بشغفٍ كشخصٍ يخشى أنْ يموتَ غدًا، أكولٌ لكل ما هو لذيذٌ وضارٌ أيضًا؛ فكل طعامٍ صحيٌ ماسخ [أي لا طعم له]، وفي هذا الشأن البسيط اتفقنا، ناهيك عمّا هو كبيرٌ من مساحةِ مُشاركةٍ وأُنسة في عالم مُوحشٍ لا زال هناك لا يريم ولا يتحرك، وفي مجتمعٍ كهذا، يعزّ وُجود صديق الفهم المشترك.

ولم يعد مُجرّد فَهمٍ بل تَوحّدْ؛ فكلانا كان يعيش ذاتَ التجربةِ وذات المُكابدة مضافًا إليها مساحةُ حُبِّ خصّتني بها الأيام دُون أصدقائنا المُشتَركين، فكان فرج يملك ما لا يمتلكه الكثيرون، وهو قلبُ الطّفلِ الذي كان يُفصح جليًا وهو راقدٌ بالبيجامةِ على بطنه وقدماهُ تروحان وتجيئان، مُمسكًا بمُحركِ ألعاب ألأتاري إلى جوارِ ابنتي ايزيس التي كانت إلى يمينه في ذات الوضع، وكان عُمرها حوالي عشر سنوات أو يزيد قليلاً، فكانا يتعاركان لأن أحدهما غشَّ في اللعب.

لهفي عليك وأنْتَ تخرجُ من الذكرى في لحظتي هذه؛ لهفي عليكَ يا صديق عُمري، فثأركَ لا زال مُشتعلاً في قلبي يأخذ بالقلم كل ثأرٍ مُمكنٍ، ويرجو إيلامهم كلما وَجدتُ لذلك سبيلاً، ولذّتي تتعالى كلما أهديتكَ ثأركَ، كما كشفهم وتَعريتهم كلما استطاعت استطاعتي ذلك، ولربما كان ثأر فرج هو الذي سحبني من مساحة عشقي الأولِ الذي كان عالمي السعيد، وهو الكتابة في الأساطير والتاريخ الديني القديم، إلى البراعة في العمل بالإسلاميات على صُنوفها عن جدارةٍ واستحقاق لأرُطب قلبي بكل جولةٍ أهزمهم فيها؛ فارتح يا صديقي في مقامك وطِبْ نفسًا فالذي زَرَعته قد أنبت وفار، وبشائرُ مصر القوية الحديثةِ الحرةِ قد باتت في مرمى البصر، فاهدأ يا صديقى ونَم، فقد حققتَ وأنجزت.

كُنّا نجلس في مكتبه الصغير بمدينة نصر، ولمْ يتبقى على موعد محاضرةٍ هامةٍ له سوى ساعة وهو منهمكٌ معي في حواديتٍ جانبيةٍ بينما أنا قلقٌ وأريده أن يقوم بإعداد نقاطهِ الرئيسية ومصادره ومَراجعه، فقبل أن ننزل كان يتناول كتابًا في الحديث ويليه بتاريخٍ إسلاميٍ وجزءٍ من تفسيرٍ فقط، ولا تستغرق هذه العملية سوى دقائق، فكان حافظةً لم أصادف مثلها حتى الآن مصحوبة بالعقل الواعي والمعرفة الموسوعية الجديرة بفرج وحده.

الأهم في صفاتِ حبيب عمري هو ردُّ فعله الأسرع والذي لم أشهد مثيله، سُرعة بديهةٍ خرافيةٍ تمامًا وغير متكررةٍ فيمن عرفت على الأقل، فيعثر في النقاش على إجاباتٍ لم يقلها سوى فرج وحده حينذاك، ومع هذا التركيب المُتفرّد يجب أن تضيف الشخصية الكارمية الطاغية، فيستولي عليك بمجرّد أن يتحرك لسانه، وعندما كنتُ أسيرُ إلى جِواره، كنت أركض فيخفف الوطأ لخاطري، يتمتع بكل ماحوله ويقف أمام الشجر ويتطلع إليه وينصرف بِكُليته إلى شأنٍ له علاقة بالأحاسيس إن كان لحنًا جميلاً أو مشهدًا مؤثرًا أو وجهًا صبوحًا، وكان فرج يتمتع بأذنٍ موسيقيةٍ عاليةِ الجودةِ وقدرةٍ عبقريةٍ على تذوقِ الشعر، وفاتني أن أقول أن فرج كان شاعرًا رائعًا وبدأ مشواره بكتابة الشعر وأتمنى على أولاده لو كان لديهم أشعار والدهم أن ينشرونها على الناس لأنها بموته قد أصبحت مشاعًا للوطن، ويبقى السؤال التخيلي: ترى ما كان يمكن يكون شكل حياتنا لو لم يمت فرج علي فودة؟

وأنت فارس هذا الزمان الوحيد، هل لديك مصادر دعم فكرية من مفكري العالم العربي، أم تعيش صحراءك وحيدًا؟ وإن كان هناك من يدعمك ويقف وراءك، فمن هم، وكيف؟

لا أنفي موقف كل المفكرين الأحرار في العالم العربي إلى جواري بالقلم القوي والساخط على أوضاع الحريات في بلادنا في محني المتعددة، بل أن هناك مثقفين غير كُتّابٍ فعلوا الشيء ذاته مثل الأستاذ حمد يوسف العيسى، المحامي الكويتي، الذي حضر من الكويت للمرافعة إبّان محاكمتي على كتاب «رب الزمان» مع كوكبةٍ متميزةٍ من كبار المحامين المصريين تطوعًا برعاية وتنظيم الأستاذ علي الشلقاني عليه الرحمة، لكنّي لازلت وحيدًا أصرخ في بيداء، لوعورة المناطق التي تتناولها بحوثي وتحتاج إلى قدرٍ من الفدائية لا يمكنني أن أطلبها من الآخرين، ويكفيني منهم التأييد المعنوي.

فى بيئةٍ متدينةٍ وبسيطةٍ مثل بلد حضرتك «الواسطى» هل يراك الأهل هناك سيد القمني مزلزل عروش الجهل، أم سيد القمني «اللي ربنا يهديه»؟

هناك الموقفان: فمنهم من تابع وقرأ وشعر بالفخر لكوننا أقارب أو بلديات، والأكثرية لاتقرأ وبالتالي فموقفها معلوم ومنهم أشقائي وأهلي الأقربين.

لا نسألك عن دينك، بل أين تضع نفسك، يا سيدنا الكريم، بين التصنيفات الفكرية السائدة، هل أنتَ علماني؟ أم ملحد؟ أم ليبرالي؟ أم تقدمي؟ أم فوضوي…إلخ؟

أنا علماني حتى النخاع وفق تعريفي للعلمانية؛ فإنّها بفتح العين تهتم بعالمنا الذي نعيش فيه وحده، وأنّها بكسر العين لهي المنهج العلمي في التفكير، لعدم إمكانية معرفة عالم الغيب حتى لو كان موجودًا مما يجعل وجوده وعدمه سواء.

في إحدى مقابلاتك، صرّحت أنك تتبع فكر المعتزلة، هل لك ان توضح للقارئ، ما هو فكر المعتزلة، ولماذا تتبعه بالتحديد دون غيره؟ ما هو وجه الخلاف بين المعتزلة وغيرهم من فئات الدين الاسلامي، وخصوصًا الاشاعرة؟

أهمُّ ما جاء به المعتزلة على الإطلاقٍ هو أنه إذا تعارض حكم النقل أو الدين مع حكم العقل أخذنا بحكم العقل ونحّينا حُكم النقل، وكانت قاعدةً متقدمةً للغاية في ذلك الزمان، وهي وجه الخلاف التأسيسي مع بقية الفرق وبخاصة السنة والجماعة التي تطورت إلى الأشعرية.

شُهرة سيد القمني أتت باعتباره صاحب الكلمة الجريئة أمام المتشددين، فهو متشددٌ لعقله ووطنه – وندلل على ذلك بمقالك شديد اللهجة والذي نُشر تحت عنوان «إنها مصرنا يا كلاب جهنم» – والمتشددون الإسلاميون لدينهم وماضيهم، أيّهما أقوى وأكثر انتشارًا اليوم، تشدد القمني أم تشدد بن لادن؟ وماذا عن المستقبل، هل تراه للقمنى أم لابن لادن؟ ولاتنسى، سيدنا الكريم، أننا نتحدث عن وطن مصاب بمرض الدين والجهل والفقر معًا

التاريخ لا يرجع أبدًا للوراء، وكذلك التّطور القيَمي والأخلاقي والحضاري، لِما كان هذا كله يرتبط بالعلوم وبالمنهج العلمي في التفكير، وبما أنّ العلم قد حقق نجاحاتٍ ساحقةً تراجعت معها التفاسير الدينية للكون نتيجة الجهل بالطبيعة، ولأنّ العلم لم يسجل أيّ تراجعٍ، فالآتي على مستوى العالم هو الانتصار النهائي للعلم والعلمانية.

العلماني يرفض قيام دولةٍ دينية، إلا أنَّ لرفضه هذا داوفعًا كثيرة، هلّا أخبرتنا عن هذه الداوفع التي تجعلك تعارض قيام دولة دينية؟

إنّ مراجعةً سريعةً لحكم دولة الدين، وأقصد تحديدًا الأديان الإبراهيمية الثلاث، كفيلةٌ برفضها بل ومحاربتها ويمكنكم الرجوع لكتابي «انتكاسة المسلمين إلى الوثنية» وفيه اعتراضاتٌ تند عن الحصر هنا، وتكرارها هنا يحتاج كتابًا هو موجود أصلاً.

هناك أمور قام بها النبي بحسب ما وصلنا عنه من الكتب لا تعتبر أخلاقية في زمننا مثل زواجه من عائشة ذات التسع سنين ونزوله في القبر مع امرأةٍ لوداعها والتي فسرها بعض رجال الدين الأسلامي على أنها رخصةٌ لما يسمى «نكاح الوداع» وما إلى ذلك؛ الأخلاق: هل هي مفهومٌ نسبيٌّ أم مطلقٌ بالنسبة لسيد القمني؟

الأخلاق مفاهيمٌ نسبيةٌ لأنها تقوم على مجموعة قِيمٍ ترتبط بالبيئة والمكان والزمان، ففي بيئةِ وفرةٍ وثراءٍ واستقرارٍ مجتمعي مثل مصر القديمة، تصنع البيئة والناس والزمن جدائل أخلاقية من لونٍ خاص، فيكون العالم الآخر نسخةٌ طبق الأصل لما عليه مصر، فالميت بعد البعث يقوم بالزرع والفلاحة والعمل الدؤوب كما كان يفعل في حياته لأنه لم يتصور حياةً بلا عمل يوفر فيها الإله كل المشتهيات للمؤمن وهو في حالة كسلٍ أبدي، وأول دفوع المصري القديم أمام الإله هي إني لم ألوّث مياه النيل، وهو ما لا يكون له معنى في بيئةٍ أخرى، وتقوم القيم كلها على المواطنة المصرية وترتبط بالأرض الوطن التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات ولو نظريًا.

ومن ثمّ جاز لجيمس برستد أن يؤكد أن فجر الضمير الأخلاقي كان في مصر القديمة قبل ظهور أيّ من الديانات الإبراهيمية مما صنع سلامًا مجتمعيًا نموذجيًا، بينما في بيئةٍ شحيحةٍ تعاني الندرة والجفاف القاتل تبرز قيمٌ أخرى لاتعرف معنى المواطنة، وذلك لأن البدوي لايرتبط بأرضٍ محددةٍ لأنّ حياته تنقل بحثًا عن مصادر الحياة وغزو القبائل الأخرى للاستيلاء على ما تحت يدها، ويكون الصراع صِفريًا، يا قاتل يا مقتول، ومن ثُمّ تتراجع قيم السلام لصالح قيم الحرب ويصبح القتل محبّذًا والتربية على الفروسية أمرًا حميدًا، ولأن للمرأة في المواطن الخصيبة دورٌ لا يقل أهميةً عن دور الرجل زرعًا وفلحًا وريًا ثم غناءً ورقصًا مع توسعٍ في ألوان المودة والحلي والأزياء، بما ارتقى بالفنون عمومًا حتى شغلت مناصب القضاءِ والإمامة العظمى، فقد قامت القيم على احترام المرأة ودورها وحقوقها غير المنقوصة عن الرجال، بينما في البداوة يقتصر دور المرأة على إمتاع الرجل وإنجاب مزيدٍ من الرجال لحماية القبيلة والتي تقاس قيمتها بعدد الذكور المقاتلين بينما يكون المطلوب التقليل منْ عدد إناث القبيلة بدفنها لأن النساء متاحةٌ لدى القبائل الأخرى، حيث يتم الاستيلاء عليها سبيًا ونكاحًا وعبوديةً وتكون نساء القبيلة معرضةً لعار السبي لذلك يُحبّذ دفنها.

في مقابلتكَ الأخيرة على قناة المحور ذكرت أن عمر بن الخطاب أرسل رسولاً إلى الصحابي الأنصاري سعد بن عبادة في العراق وأمره أن يسأله إنْ كان خارجًا على جماعة المسلمين فلمّا أجاب بالإيجاب قتله، وبدا لنا طرح الحادثة في المقابلة وكأنها في محل استحسان هل يمكن أن توضّح لنا موقفك من الحادثة والظروف المحيطة بها؟

بالقطع، الإجابةُ بلا، لكنّها حربٌ مع التيارات الدينية، أستخدم فيها كافةَ ما تصلُ إليه يدي من وسائل لتسديد الضربات المطلوبة للطرف الأخر وليس من الضروري أن تكون دفوعي موافقةً لحقيقةِ منهجي وقيمي لأنهم بلا قيمٍ على الإطلاق، وكانوا قد استخدموا معي كل خسيسٍ وكل افتراءٍ وكذب.

جاء كتابك «الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الاسلامية» تعبيرًا عن وجهة نظركم لجذور الدين الإسلامي، حبذا لو شرحت للقارئ ما هي وجهة نظركم حول تأسيس الإسلام؟

باختصار، كان الإسلام جامعًا للعرب المتحاربين تحت راية واحدة لإقامة وحدة سياسية، ويُرجعُ للكتابِ بُغية التفاصيل.

ونحن بصدد الحديث عن كُتبك، كنت قد أصدرت كتابًا تحت عنوان «رب هذا الزمان» الذي صادره الازهر، حدثنا عن هذا الكتاب ولماذا تمت مصادرته بالذات؟ ولماذا تم استجوابك في أمن الدولة حول ما جاء فيه؟

 لقد كتبته إبّان وجودي بمستشفى القلب بالهرم الذي بقيت فيه خمسة أشهرٍ، قبل إجراء جراحةٍ في كليفلاند، ولم تكن المصادر تحت يدي وكان لونًا من شُغل الفراغ لذلك تمكن الأزهر من فهمه لبساطته واحتسبوه فرصتهم لحبسي، وحوكمت أمام نيابة أمن الدولة العليا ومحكمة شمال القاهرة وحِزتُ البراءة وتم نشر المحاكمة في الطبعة التي تلت المحاكمة.

بالاطلاع على كتابك «قصة الخلق» نجد في السرد المدعّم بالمصادر التاريخية العديدة أنّ السومريون هم أول من وجدت لهم آثارٌ موثقةٌ في المنطقة، ونقرأ أيضًا بأن السبب هو اختراعهم للكتابة بالطباعة المسمارية، التي أدّت بالتالي لوصول بعض الآثار عن وجود آلهةٍ لدى السومريين، كما تشير بعض المصادر إلى تعظيم السومريين لأنفسهم باعتبارهم أسمى الشعوب لدى الآلهة، والأمثلة على التشابه بين سفر التكوين من العهد القديم والجديد والقرآن من جهة والعقيدة السومرية من جهةٍ أخرى لا تكاد تنتهي، مثل وجود عرش الآلهة على الماء في البداية، والتصاق السماء والأرض، والتصور لمسألة شكل الأرض وأطرافها…إلخ؛ هل لك أن تحدثنا أكثر عن ارتباط ما يسمى بالأديان السماوية مع الحضارات السابقة؟

إنّ الديانات الكبرى والإبراهيمية إنْ هي إلا امتدادٌ في محاولة فهم الكون من حولهم.

يطرح كتابك «قصة النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» معضلةً تاريخية؛ وهي تحدث التوراة والقرآن عن إبراهيم وحياته، واستعراض القرآن لرواياتٍ مخالفة للتوراة، حول نبوّة إبراهيم ومكان إقامته، إذ يقول القرآن بأن إبراهيم وطأ أرض الحجار فيما تتحفظ التوراة على ذكر أيّ مصدرٍ لهذا الحدث؛ ويثير كتابك الآنف الذكر التساؤل الكبير عن حقيقة وجود إبراهيم فعلًا، في ظل عدم وجود أيّة مصادر تاريخية محايدةً تشير إلى وجوده بالرغم من أهميته في الأديان الابراهيمية، فما هو خلاصة ما تعتقده حول وجود النبي إبراهيم وقومه والملك الطاغية نمروذ؟

يرجى هنا العودة إلى كتاب النبي موسى الجزء الأول الطبعة الأولى، وهو موجود على شبكة الإنترنت مجانًا، حيث اكتشفت أخطاءً وقع فيها كتابُ «النبي إبراهيم» ثم عالجتها وصوبتها في «موسى»، لذلك لم أطبع من «إبراهيم» سوى طبعتين وتوقفت.

أخبرتنا عن أرائك حول تأسيس الاسلام، ولا بد أنّ لك نظرتك الخاصة في القرآن، فهلا حدثتنا عن أرائك حول القرآن نفسه؟

إنّ القرآن سجلٌّ هامٌّ لمرحلة زمكانية من تاريخ الحجاز.

كعلماني يدعو لفصل الدين عن الدولة، هل كان لك أراءٌ أو كتاباتٌ حول المناهج الدينية التي تُدرّس للطلاب في المدارس؟

لقد خاطبتُ شيخ الأزهر لإعادة النظرِ في مناهج التعليم، وخاصةً الفقه أما التعليم العام الدنيوي فلا حل له سوى استجلاب بيوت الخبرة العالمية بهذا الشأن.

في العام 2005، أصدر تنظيم القاعدة في العراق رسالة تهديدٍ بهدر دمك، نودّ منك أن تحدثنا عن هذه الرسالة، وماذا فعلت لتجنب هذا التهديد؟

 كنت قد توقفتُ مؤقتًا عن النشرِ استجابةً للأمر القاتل، حتى تمكنتُ من إيجاد مسكنٍ لأولادي بعيدًا، وعدت بعدها للنشر فما شغلني حياةٌ أو موتٌ، بل ما شغلني هو أطفالي أن يتعرّضوا لأيّ مكروه لذلك كانت تلك استجابتي للتهديد والتوقف المؤقت.

بعد حصولك على جائزة الدولة التقديرية (2009) رفع الشيخ يوسف البدري دعوىً قضائيةً يطالب فيها بسحب الجائزة منك على خلفية كتابك «الحزب الهاشمي» والذي أثار الاتهامات بأنك بعيدٌ عن التقديس الذي اعتاده الناس في سرد التاريخ الاسلامي، وقال بالحرف الواحد: «سيد القمني أخطر على الإسلام من سلمان رشدي»، فما تعليقك على هذا الكلام؟

لم يعد يشغلني

تزايد مؤخرًا عدد الشباب المستنير الملقبين في المجتمعات العربية بالملحدين، بدايةً نود أنْ نعرف وجهة نظرك فيما لو صحّ أن نطلق عليهم اسم «ظاهرة» الملحدين العرب.

إن هؤلاء هم مَن أضاؤوا حياتي الحالكة السواد، وملؤوا سمائي نورًا.

من وجهة نظرك الخاصة، هل ترى أن هناك سببًا رئيسيًا لابتعاد الشباب عن الدين وتركه؟

إن التجربة المُرّةَ التي مرت بمصر تحت حكم الإخوان وممارساتهم البربرية، كانت دافعًا لمراجعة أصول الأيديولوجيا الدينية ثم النفور منها.

هل تعلم إنْ كان هناك أي مادةٍ وضعت لضمان حق الأقليات بغض النظر عن الخلفية الطائفية أو العرقيه لهم، بمعنى أوضح، هل هناك أي بندٍ يضمن حماية الحرية الفكرية والمعتقد في الدستور الجديد؟ وماذا تقترح إزاء ذلك؟

يؤسفني بشدة أنّ المجتمع لم يصل بعد إلى نضوجٍ يؤهّله لقبول حرية الاعتقاد، وقد جاء الدستور على هوى الرأي العام المتخلف.

تنتشر في مصر مؤخرًا دعاوٍ قضائية ضد صدور كتب أو مقالات أو أعمال مختلفة لكتّاب ومفكرين وفنانين، هل تظن أن اللجوء الى القضاء بهذا الكمّ دليل صحيّ قد يُفسر ثقةً بالقضاء، أم أنه دليلُ على غيابِ مساحات الحوار المنظم؟ ألا توافق أن اللجوء إلى القضاء كحلٍّ أوليٍّ عوضًا عن أن يكون نهائيًا سيزيد من المسألة تعقيدًا؟

عندما لا يضمن القانون حرية التعبير والقول السلمي بحجة مصادمته للمعتقد، فهو ما يعني أنه لا قانون هناك.

ماذا يرى سيد القمني لهؤلاء المفكرين والكُتّاب في المستقبل، كيف لهم أنْ يفرضوا وجودهم في المجتمع؟

كما فعل سيد القمني، وعليهم أن يحاربوا بالفكرة والقلم دون تراجعٍ أو خوف.

ما هي وجهة نظرك بالنسبة لتصريحات الملحدين عن أنفسهم وردود الفعل الإقصائية والهجوم اللفظي الذي كان عليهم كما حصل في مقابلة إسماعيل على قناة المحور واللقاء مع بسام بغدادي على قناة مصر 25؟

السيد إسماعيل التقى المذيعة رهام السهلي وهي أشد المذيعات جهلاً وتطرفًا.

لسيد القمني العديد من المؤلفات ذكرنا بعض منها أعلاه، حبذا لو ذكرت لنا أهم مؤلفاتكَ كي يتسنى للقارئ الاطلاع عليها.

رب الثورة أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة، الأسطورة والتراث، قصة الخلق منابع سفر التكوين، النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، الحزب الهاشمي، حروب دولة الرسول، النسخ في الوحي، شكرا بن لادن، رب الزمان، السؤال الآخر، أهل الدين والديمقراطية، عفاريت التراث وتراث العفاريت، النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة، سلسلة من عشرة كتيبات بعنوان فقهاء الظلام، انتكاسة المسلمين إلى الوثنية، وغيرها.

ما هي أهم المحطات التي تركت أثرًا في حياتك كأديبٍ وكاتبٍ وعلماني؟

إنها المحطة الأولى مع رسالة الدكتور فؤاد زكريا للدكتوراة والموسومة بعنوان «اسبينوزا»، ثم الثانية كتاب الراحلة الجليلة والعظيمة أبكار السقاف «نحو آفاق أوسع».

هل ننتظر عملًا جديدًا لسيد القمني في المستقبل القريب؟

نعم، وربما كان عنوانه «إلحادولوجي» وربما يتغير العنوان ويبقى المضمون.

ذات مرة قال العظيم نجيب محفوظ: «يومًا سينتصر العِلم على السماء ويقتلها، ويومها سيندم العِلم لأنه سيقتل الله ليطلق كمًا رهيبًا من الغرائز الشريرة فى نفوس الغوغاء أصحاب الكثرة العددية، فكأن قتل الإله لصالح الأوغاد». السؤال: هل المستقبل لله أم للعِلم أم للأوغاد؟

للعلم بالقطع واليقين

ما هي الرسالة التي تودّ توجيهها للملحدين العرب؟

ما كان مكتوبًا على خاتم يلبسه باروخ ابينوزا «حذار».

شكرًا لكم ضيفنا الكريم لقبولكم إجراء المقابلة وسعة صدركم في الإجابة عن الأسئلة.

مجلة الملحدين العرب: العدد السابع عشر / شهر أبريل / 2014