مؤمن, يقابل الله الملحد

قرب أحد محلات بيع التمور المحلية, إتكأ رشيد, وهو مسلم يناهز عمره الخمسة وخمسين عاماً, على أحد العوارض الكونكريتية في أزقة بغداد. كان يفقد توازنه تدريجياً مع شعوره بألم قرب كتفه الأيسر وهو يعلم أن هذه من عوارض نوباته القلبية, ضاق نفسه وبان له انه يسقط أرضاً, وقبل أن يرتطم رأسه المتصبب بالعرق على الأرض, دخل في ظلام دامس. كان رشيد هذا يكره الأماكن المغلقة والمظلمة, فشعر بخوف, ولكن في نفس الوقت توقف شعوره بالألم وتوقف ضيق نفسه, في الحقيقة لم يكن يشعر بأي شيء ففي غفلة من أمره اختفى ألم مفاصله وأختفى صداعه النصفي وأختفى أي الم جسدي مزمن كان يعاني منه.

صاح رشيد: ” أين أنا ؟ “

فأجابه صوت غريب (وكأنه رجل أو إمرأة يحاول أو تحاول ان يغير أو تغير صوته أو صوتها .. كان الأمر محيراً جداً) : ” أنت تقبع حالياً في مستشفى حكومي في بغداد “

رشيد : ” حسناً, وما هذا الظلام الدامس ؟ “

الصوت : ” لقد قمت بنقل وعيك الى فوهة خارج الزمان والمكان “

رشيد : ” ومن أنت ؟ “

الصوت : ” أطلقتم عليّ أسماء كثيرة, لا أحبذ معظمها, بامكانك القول… إنني أنا ما تسميه الإله “

رشيد (بفزع … ) : ” أنت الله ؟ “

الصوت : ” ااااه كم أكره هذا الإسم “

رشيد (وقد قل فزعه … ) : ” هل ستقوم بمحاسبتي إذاً ؟ “

الصوت (بإستهزاء) : ” من ؟…  أنا ؟….  وعلام ؟…. “

رشيد (بقليل جداً من الفزع …. ) : ” أين المنكر والنكير ؟ أين عذاب القبر ؟ هل أنا في عالم البرزخ ؟ متى تقوم الساعة ؟ “

الصوت : ” تمهل قليلاً.. من قال لك إن هذه أمور صحيحة ؟ “

رشيد : “….. لا أدري …  كيف ستحاسبني إذاً ؟ “

الصوت : ” ولم سأحاسبك ؟ هل من الحكمة أن أحاسبك على غرائز أنا من وضعها فيك, وعلى نتائج تجربتك في مجتمع أنا من خلقك فيه ؟ كل ما فعلته لم يكن سوى عمليات تكيف لبيئة موضوعة لك قبل أن تولد حتى … الحساب والثواب هي أمور انتم من أنشئتموها, أنتم البشر, بالنسبة لي لا يوجد شر مطلق ولا خير مطلق , كل ما تظنه أنه خير يُفعَل هو خير بالنسبة لك وكل ما تظن انه شر يُفعَل هو شر بالنسبة لك أيضاً , قد يكون خيرك هو شر لدى غيرك وشرك هو خير لغيرك, كلها أمور نسبية, فعلى ماذا سأبني مقاييسي لأحدد لك أن هذا الأمر شر فعلته وهذا الأمر خير فعلته.. الكينونة الإلهية التي أنشئتموها أنتم البشر لم تكن سوى إنعكاس تخيلاتكم وكانت ضيقة كضيق مخيلاتكم, الكينونة الإلهية الحقيقية لا يمكن لها أن تنجذب لفعل ما فتسميه خيراً ولا أن تتنافر مع فعل أخر لتسميه شراً.. فكرة الخير والشر بدأت حين تعرض أول كائن حي يقوى على التحليل والتمييز, فحينما تعرض لما يؤذيه أسماه شراً وحينما تعرض لما يصب لمصلحته أسماه خيراً .. أدعوك لتفكر الأن .. أنا إله .. ما الذي يؤذيني وما الذي يصب بمصلحتي … أنا إله … هل للإله مصلحة ؟؟ “

رشيد (بعد صمت طويل) : لقد قضيت سنوات عمري أمتنع عن الكثير من طيبات الحياة واقضي الكثير في عبادتك لتأتي أنت وتقل لي أنه لا يوجد شر وخير مطلقين ؟ ماذا عن كل تلك الأموال التي زكيت بها ؟ ماذا عن ذهابي 3 مرات كي أحج بيتك الحرام ؟ ماذا عن صلواتي صومي دعائي ؟ أين سيذهب كل هذا ؟”

الصوت : ” زكاتك ورغم أنها تنم عن طيبوبة إنسانية لكنها كانت تشجيع للفقير على التكاسل وإنتظار الأموال حتى تصل إليهم بنفسها فلم تكن خير مطلق إذاً, وبما أنك كنت تفعلها إنتظاراً للحسنات فلم تكن سوى عملية تبادل .. أين الخير المطلق الذي تدعيه ؟ ولو فكرت قيلاً لن تجد أي ميكانيكة سأستفاد منها أنا حين تدور حول حجر ما, شبه عاري أو تركع أو تمتنع عن الأكل والشرب لمدة شهر كامل ….. كلها محاباة لحالات وإضطرابات نفسية كنت تعاني منها, وكل هذا ليس ذنبك فقد تربيت عليه , فأنت يا رشيد لو ولدت في الهند لربما كنت هندوسياً وعباداتك مختلفة, ولو ولدت في فرنسا فستكون على الأرجح مسيحياً وهكذا هي الحال لو ولدت إسرائيل أو السعودية أو غيرها.. هل تعلم عدد الديانات لديكم ؟ كل ما تحتويه من أفكار وتخيلات وأوهام …. كلها نتاج لتجاربك وتعايشك مع وسطك البيئي…”

رشيد : ” وماذا عن رسلك وأنبياءك ؟ لماذا ارسلتهم ؟ “

الصوت : ” أي رسل تقصد ؟ زرادشت أم موسى أم محمد أم حمزة بن علي أم جوزيف سميث أم رون هابارد؟ هل تعلم كم عدد أقرانك من البشر من الذين وصفوا أنفسهم بالأنبياء والمرسلين ؟ هل تعلم بأن كلاً من منهم لديه أتباع ويدعي المعجزات ويدعي مقابلتي ؟ أم ستُقيّم مصداقيتهم على عدد أتباعهم ؟ وأي طريقة سخيفة هذه …. هل من الحكمة أن أكلم شخص ما أو اوحي له بأن يأخذ على عاتقه إقناع قبيلته أو عشيرته ؟ تلك طريقة أقل ما يقال عنها أنها غبية , لما لا أظهر لهم نفسي كي يصدقوا بي ؟ لماذا لا أوحي لهم أجمعين بما أوحي لرسولي ؟ وماذا سأحقق لو صدقوا بي ؟ أنا على العكس منك ومن أقرانك البشريين لا اعاني من عقد نقص نفسية ولا يؤثر بي ولا يغضبني ولا يفرحني أي تصديق أو إيمان أو عبادات “

رشيد (وبدء يشعر بغضب) : ” أنت لست الله , لابد أن تكون إبليس !!! “

الصوت : ” إبليس ؟ ذلك الكيان الذي خلقتموه كي يبرر لكم أعمالاَ تشعرون بالذنب حيالها ؟ …. عادة ما تصفوني بالحكمة ولا تتسائلون ما الحكمة من خلق إبليس .. ألم أكن أعلم انه سيتمرد عليّ يوماً ما حين خلقته أو على الأقل حين رفعته قرب عرشي المدعى ؟ تلك فكرة سخيفة أخرى ومحاولة بائسة لتبرير شعورك بالذنب .. لا أعيبك عليها , ولكن فلتعلم إنك أنت من كان يزوغ لنفسه تلك الأعمال “

رشيد : ” تتكلم عن الحكمة وعن التساؤل وأنا طوال عمري أتسائل ما الحكمة من خلقنا … “

الصوت : ” عادة ما تصفوني بأوصاف كاذبة رنانة , وإن كنت أنا سأصف نفسي بوصف قريب لمعرفتكم البشرية سأقول أنني كالمؤلف الذي يضع للشخصيات ميزات محددة وتجارب سابقة وبيئة معينة ويترك تلك الشخصيات كي تنمو داخل كتابه “

رشيد : ” لم تجبني …. ما الحكمة من فعل هذا ؟ “

الصوت : ” ببساطة لا يوجد, ولكن هذا لا يعني نهاية العالم بالنسبة لكم … فبوسعكم أن تتمتعوا وتحيوا حياة مليئة بالراحة والإستمتاع , ولكن عوضاً عن هذا أنتم تصدقون بحكمة غبية كاذبة (خلقتكم لتعبدوني) ومن هذه الحكمة تستقون أبشع ما يمكن تصوره من أفعال إجرامية فيما بينكم كالجهاد وتمتنعون عن إيتاء غرائزكم البشرية حقها بالاستمتاع والإطمئنان … تفضلون العيش وسط عاصفة من الإضطرابات النفسية والشخصيات المريضة … أنتم فئة من الأغبياء المكبوتين السائرين بشكل أعمى خلف القطيع .. وتطالبني بحكمة , ماذا لو قلت لك لا يوجد حكمة … أسيمنعك هذا من أن تحيا حياة مفعمة بالأمان والإطمئنان وأن تتمتع بما هو متوافر لديك ؟ “

رشيد : ” طيب, إن كنت إلهاً فعلاً, لماذا لم تنزل الينا شرائعك الحقيقية وأنبياءك الحقيقيون وحقيقة كينونتك ؟ “

الصوت : ” ما الفائدة ؟ ستقومون بإستخدام وتحوير وإنتهاز كل ما أنزل لكم وبأبشع الطرق لأغراضكم الشخصية, لقد فعلتم أكثر من هذا بأقل من الشرائع الإلهية الحقيقية, قمتم بإستخدام الديانات المتواجدة لديكم لأغراض شخصية وكتبريرات لأطماعكم وحبكم للإمتلاك والسيطرة, ولحسن حظكم كان هنالك أكثر من دين وكان من الممكن جداً إبطال كل الديانات هذه وعدم شموليتها للبشر أجميعن, ولو كان فعلا هنالك دستور إلهي تشريعي تؤمنون به أجمعين ستقومون بإنتهازه لنفس الأغراض البائسة وبنفس شخصياتكم المريضة ..  سيكون حين ذلك هلاككم قريب وبشع جداً “

رشيد : ” ماذا عن الموت ؟ ماذا سيحصل بعده ؟ الى أين سأذهب ؟ “

الصوت : ” الموت ….” لحظات من الصمت … ثم يكمل الصوت : ” هذا جل ما تخافوه, هذا هو سبب خلقكم للخرافات والأوهام, كنتم وبمحاولات بائسة تحاولون التهرب من حقيقة فنائكم, فخلقتم لأنفسكم حياة ثانية يشرف عليها كائنات إلهية, خلقتم عوالم وتجارب وبعث وحساب وإنقلاب, كل هذه العوالم كانت مهرباً لكم من الموت ومن حقيقة فنائكم ولكن في نفس الوقت كانت سبباً لمضاعفة خوفكم من الموت, أنتم أغبياء فعلاً … ثم هل تطلب من عندي الجنة ؟ يا ترى ما تبحث فيها ؟ هل تبحث عن سيارة مثلاً ؟ أو جوال ذكي ؟ IPhone ؟ هل ستحقق لك هذه الأغراض السعادة مثلا ؟ وما هي السعادة برأيك ؟ هل من السعادة أن تسكن قصراً وتنكح حور العين وتشرب الخمر وتستلقي على ظهرك متوجها لنافذة تطل على عرشي ؟ لكم سنة ستبقى على هذه الحال ؟ ألف سنة ؟ ألفين سنة ؟ مليون ؟ بليون ؟ تريليون ؟ ما هو الهدف من ذلك ؟ إلى أين ستمضي بعد ذلك ؟ ………. هل فهمت ما أعني ؟ حتى العوالم التي تطمحون في تحقيقها لا تقل بشاعة عن العوالم التي تطمحون في الإبتعاد عنها. صدقني حقيقة الفناء هي من حسن حظكم, والخلود أمر غبي وبشع… وما هي الحياة أساساً ؟ وما هو الموت أساساً ؟ …. سأسلك سؤالاً ليس تقريراً “

رشيد (مقاطعاً الصوت) : ” وأخيراً .. سؤال ليس تقريري “

الصوت : ” هل تعتقد أن ذلك الجسيم المسمى إينشاتين فاني ؟ أم هو خالد ؟ “

رشيد : ” في الحقيقة أعتقد أنه “

الصوت (مقاطعاً رشيد هذه المرة) : ” لا تجبني … فلتبقي الإجابة لنفسك , ولتتمعن فيها “

رشيد (بنبرة من اليأس) : ” ماذا سيحل لي الأن ؟ ماذا ستفعل بي الأن ؟ الى أين ستذهب بشخصيتي التي أنميتها في روايتك ؟ “

الصوت (متلعثماً بغرابة) : ” أنا ؟ … ماذا ؟ … ااااه … في الحقيقة أنت من أنشئتني, أنا فكرة تقبع في دماغك البشري, فلترمي إلي الأن بأوصاف معينة لأحدد لك مسار معيناً….. “

رشيد ( يصرخ هنا ) : ” ماذا ؟؟؟؟؟ ماذا تعني ؟؟؟؟ “

ويستيقظ رشيد من حلمه, بل من كابوسه إن صح التعبير, ذلك الكابوس .. سيترك رشيد ليفكر في ما تبقى من عمره… يا ترى ما كان ذلك الكابوس اللعين ؟؟!! وماذا عن ما جاء فيه ؟؟!!