يتميز الإنسان عن الحيوان بالكذب، فالإنسان ليس حيواناً ناطقًا أو عاقلاً كما يزعم فلاسفة الإغريق، إنهّ حيوانٌ كاذب، فالإنسان هو الكائن الوحيد على وجه الأرض الذي يستطيع الكذب، إذا إستثنينا الحرباء التي تضُللِّ خصومها عبر تغيير لونها كي تتماهى مع الوسط المحيط بها كآلية دفاعية لصرف وتشتيت إنتباه مُفترسِها أو فرَيستها، طبعاً إذا إعتبرنا سلوكها هذا كذباً.
نحن لا نهُين الإنسان عندما ننعته بالحيوان الكاذب، بل على العكس تمامًا، نحن نمتدحه ونقُدِّسه ونضعه في مكانٍ مميزٍ ومرموقٍ على خارطة الوجود، فالكذب ليس سلوكاً لا أخلاقيًا أو شريراً، الكذب هو عنوان الحضارة والإنسانية ،بدأت الحضارة والتحضر عندما كذب أول إنسان ولم يقل الصدق، بدأت الحضارة عندما إكتشف الإنسان الكذب، كان الناس قبل ذلك أوغاد، لئام، متعجرفين، وقحين، صفيقين، لا يعرفون المجاملة والمطايبة، ولا يعرفون كيفية التعبير عن -أو بالأحرى صناعة- حبهم للاخرين وحب الآخرين لهم، ولا يعرفون معنىً للسياسة والكياسة، ومتطلبات التعايش في المجتمع الإنساني. قبل أن يعرف الإنسان الكذب لم يكن يعرف الدين ولا يعرف الله ولا الملائكة ولا الشياطين ولا حتى الأنبياء!
يحتاج الإنسان للكذب ليُجنِّب نفسه عذاب الإعتقاد بالعدم بعد الموت، الإنسان يحتاج للكذب ليشعر بوجود )الرجل الذي بالسماء( والذي يوكل ويفوض له الإنسان أمره وملجأه ،الإنسان يحتاج للكذب ليتعلق بالأمل في مقابلة الأعزاء والأصدقاء والأقارب الذين فقدهم بالموت في الدار الاخرة ،لقد كان الأنبياء هم أكثر الناس كذباً لأنهّم اكثر الناس أخلاقيةً، ومثالية ،وإنسانية، وعبقرية. رسالة الأنيباء العظيمة هي الكذب من أجل الحفاظ على الإنسان، وعلى تميُّزه، وعلى مركزيته بالوجود، وعلى تدعيم غروره الطاووسي، وتعزيز ثقته بذاته.
للتحقُّق من قيمة الكذب وضرورته ما عليك إلاّ أن تتخيل لو يكف العاشق عن الكذب على معشوقته، ويخبرها بأنهّا ليست جميلة وأنّ أنفها ضخمٌ وقبيح، تخيل أن تكف الزوجة عن الكذب على زوجها وتخُبره بأنهّا تعيسة بحياتها معه والسبّب الوحيد لقبولها مواصلة العيش بمعيته هو الأبناء، تخيل أن يكف الطبيب عن الكذب على مريضه ويخُبره بأن لا أمل في الشفاء، تخيل أن يكف المعلم عن الكذب على تلامذته ويخُبرهم بأنهّم أغبياء وأنهّ لا جدوى من تعليمهم، تخيل معي أن تكف عن الكذب على أولئك الذين تجري الجريمة في عروقهم فطريا وتقول لهم بأنهّ لا جنة هناك ولا نار، أن تكف عن الكذب على الفقراء وتخبرهم بأنهّ لن يتم تعويض فقرهم غِنًا وثراءً بًالجنة، تخيل معي أن لا تكذب على طفلٍ صغير فقد أبويه في حادثٍ مريع وتخبره صادقا بأنهّ لن يراهما بعد اليوم مطلقًا. ألاّ ترى حينها استحالة الحياة إلى فوضى وتعاسة وشقاء وعبث و فتنة وخلافات غبيةً لا معنى لها، وكان بالإمكان تجاوزها لو كنا قد كذبنا ولم نقل الحقيقة؟
منشورات ذات شعبية