قرأُتُ مؤخّرا أّنّ أحد الأصدقاء قد عاد إلى الإسلام مع العائدين، ولم أتعجب، فالخوف صار يعصف بالمحسوبين على الإلحاد عصْفًا، ولكن الذي تعجبت منه أن سبب رجوعه إلى الإسلام كان بسبب بلاغة القرآن التي لم يستطع هو أن يحاكيها، فلعَمري هذا تخريفٌ وهذيان، فالعجز عن تقليد الشيخ زبير –شكسبير– ليس دليلا على ألوهية كلام هذا الأخير، ولكن قد يكون دليلا على التفرد بالأسلوب والندرة في الأنداد، نعم، قد يكون دليلا على ذلك.
ولعلّه لا يستقيم إغفال ما نُسُِبَ إلى العالم الكبير أبي بكرٍ الرازيّ في هذه النقطة، إذ يقول نقريسُنا:
إنكم تدّعون أن المعجزة قائمة موجودة – وهي القرآن – وتقولون: «من أنكر ذلك فليأت بمثله» … إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والشعراء وما هو أطلقُ منه ألفاظا، وأشدُّ اختصارا في المعاني، وأبلُغُ أداء وعبارة وأشكل سجعا، فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به.
دعونا نَعَدْ إلى موضوع بلاغة القرآن الذي عاد بسببه صديقٌ لي قريبٌ إلى حفرة الإسلام، فهو حاول محاكاة أسلوب الفرقان ولم يستطع، فاعتبر ذلك دليلًا على ألوهية هذا المصحف القديم، فهل هذا الكتاب فعلًا منفرد لم ينجح أحد بمحاكاة أسلوبه ولو من قبيل الاستصغار.
الحق أن رهينَ المحَِْبِسَيْنِ أبا العلاء المعرّي قد حاكى هذا الكتاب محاكاة عظيمة في كتابه المغمور «الفصول والغايات»، ولقد اتفق الكثير من النقّاد على كون هذا الكتاب ردًاا على القائلين بإعجاز البلاغة في القرآن، ولكن دعونا ــ قبل الوقوف عند مقتطفات من كتاب الفصول والغايات ــ نسألْ؛ لماذا لا نقبل نحن الملحدون بمسألة البلاغة المعجزة في القرآن؟
لا إعجاز في بلاغة القرآن:
لاحظوا أنني قلت إنه لا إعجاز في بلاغة القرآن، أي أنني أؤكد على أن هذا الكتاب فيه نصيب من البلاغة في كثير من مواضعه، ولكن هذا النصيب من البلاغة لا يجعل منه كتابا إلهيا، لأن البلاغة عند رجالِ ما قبل الإسلام وصدر الإسلام كانت كاللبان تلوكها أسنان الأعراب والحضر، لقد كانت لمُاظةَ اللسان العربي يتمطّقُ بها العربي في الفيافي والسباسب قبل الحضري في المدينة، أفما رأينا بلاغة امرئ القيس وعنترة وغيرهما؟
في واقع الأمر، لم يصلنا نصٌّ من نصوص ما قبل الإسلام سواء كان على لسان مدّعٍ للنبوة أو على لسان بدوي جلفٍ أو على لسان صحابيٍ حازمٍ إلا وجدنا فيه نفحةً من البلاغة والإيجاز، فانظر إلى المحارب الغادي إلى ساحة النزال كيف يجري الشعر على لسانه مجرى الماء في العودِ ويقوله سليقةً وفطرةً بدون تصنع ولا تكلف، كمثلِ قول سعد بن معاذ وهو في الحرب:
لَبِّثْ قليلا يلحقِ الهيجا حَمَْلْ *** لا بأس بالموت إذا حان الأجل
وأنا اخترت هذا النص اختيارا عشوائيا لا انتقائيا، لأثبت أن الاختيار العشوائي مما وصلنا من كلام ممن قبل الإسلام لن يقودنا إلى كلام فاسد غير فصيح بليغ، تخيل معي صندوق موٍزٍ، كل موزة في هذا الصندوق طيبة نقية ناضجة، فإذ ما حملَتَ إصْبُعَ موٍزٍ وأنت معصوب العينين واكتشفت أنه إصبعٌ ناضج لذيذ، فهذا لا يعنى أن ذاك الإصبع من الموز مميز ومنفرد بالنضج، وأنه لا يمكن لأي أحد أن يحصل على ما يشابه تلك الموزة، بل الحق يقال، أنه إذا أتى شخص آخر ووضع يده في صندوق الموز سيحمل موزة بالنضج واللذة نفسها علما أن الكَُّلَّ ناضج لذيذ.
فالقرآن إنما يشبه هذا الموز، فهو كلام بليغ من مجموع ما وصلنا من الكلام البليغ ما قبل الإسلام، ولا يوجد إعجاز فيه لأنه كغيره، بل إننا نجد في كثير من الأحيان تكرارا وأخطاء لغويةً حاول اللغويون ترقيعها ولم يستطيعوا، ولنا وقفة مع هذه الأخطاء اللغوية لاحقا.
انتفاء أحد شروط البلاغة في القرآن:
بلّغ يبُلّغ تبليغًا، الجِذر – بلّغ – هو أصل كلمة – البلاغة – في اللغة العربية، فالبلاغة هي القدرة على تبليغ الفكرة إلى المستمع في أوضح تركيب وأوْجزِ كلامٍ وأحسنِ لفظ، فهل استطاع القرآن أن يبلَّغَ شيئا؟
الحقّ أن القرآن لم يستطع أن يبلغ الكثير من كلامه إلى المسلمين العرب الأقحاح، فانظر كيف نَفََقَتِ الأسواق بكتب التفسير والإعراب وشرح القرآن في محاولة لإيصال فحوى القرآن إلى القارئ، وكلُّها اجتهادات شخصية لم تبلغ مرتبة اليقين والصحة التامة، فهل كتاب مثل هذا الكتاب بليغ؟
بغّضّ الطرفِْ عن الكلمات المبهمات في القرآن والتي لا يعلم سِرَّها إلا الله، ومع ذلك حشاها الله في كتابه ليبرهن على بلاغته، فإّنّ قراءة القرآن وفهمه بدون الاستعانة بكتب التفسير واللغة والسيرة المحمدية ليس ممكنا أبدا.
لنقف عند سورة الشمس نتدارَسْها:
«والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّّاها، وقد خاب من دسّاها، كذبت ثمود بطغواها، إذ انبعث أشقاها، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذّبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها، فلا يخاف عقباها»
هذه السورة تبتدئ بواو القسمِ، فيقسم الكاتبُ بالليل والنهار والشمس والقمر، ليصَلَ في آخر الأمر إلى سردٍ غامض لقصة – أشقى ثمودِ –، وكيف أن هذا الأشقى عَقَرَ ناقة الله فدمدم الله على أمة ثمودٍ دمدمةً جعلها تنقلع من الوجود حتى بقيت كأعجاز نخل خاوية، ولكنّ الذي يقرأ هذه السورة بدون رصيد معرفي قبلي ناتجٍ عن قراءة كتب قِصص الأنبياء وتفسير ابن كثيرٍ والطبري والقرطبي لن يفهم هذه السورة أبدا، فهذه السورة التي هي جزء من القرآن تحتاج إلى كتب أخرى كتبها بشرٌ لكيْ تشرحها وتوصل الفحوى إلى القارئ، وهنا ينتفي مجددا مفهوم البلاغة في القرآن.
فمن هي ثمود؟ ومن هو أشقاها؟ وما هي ناقة الله؟ ولماذا هي ناقة اللهِ وما هي الحكمة في هذه الناقة الإلهية؟ هذه الأسئلة كلهُّا لن تَجَِدَ لها جوابا في سورة الشمس، بل عليك أن تعود إلى سُوٍرٍ أخرى كتب التفسير وقصص الأنبياء لتعرف الجواب عن هذه الأسئلة، حتى أن بعض الأسئلة بقيت بدون أجوبة مثل المغزى من تحريم عقرِ الناقة، وحتى لو رجعنا إلى قصص الأنبياء والتفاسير فلن نجد غير – حكمة إلهية –.
دعنا نأخذ السورة نفسها باللغة الإنجليزية:
And by the sun and its brightness;(1) And by the moon as it follows it [the sun]; (2) And by the day as it shows up [the sun’s] brightness; (3) And by the night as it conceals it [the sun]; (4) And by the heaven and Him Who built it; (5) And by the earth and Him Who spread it, (6) And by Nafs [Adam or a person or a soul, etc.], and Him Who perfected him in proportion; (7) Then He showed him what is wrong for him and what is right for him; (8) Indeed he succeeds who purifies his ownself [i.e. obeys and performs all that Allah ordered, by following the true Faith of Islamic Monotheism and by doing righteous good deeds]. (9) And indeed he fails who corrupts his ownself [i.e. disobeys what Allah has ordered by rejecting the true Faith of Islamic Monotheism or by following polytheism, etc. or by doing every kind of evil wicked deeds].(10) Thamud [people] denied [their Prophet] through their transgression [by rejecting the true Faith of Islamic Monotheism, and by following polytheism, and by committing every kind of sin]. (11) When the most wicked man among them went forth [to kill the she-camel]. (12) But the Messenger of Allah [Salih] [Saleh] said to them: ˝Be cautious! Fear the evil end. That is the she-camel of Allah! [Do not harm it] and bar it not from having its drink!˝ (13) Then they denied him and they killed it. So their Lord destroyed them because of their sin, and made them equal in destruction [i.e. all grades of people, rich and poor, strong and weak, etc.]! (14) And He [Allah] feared not the consequences thereof. (15).
تلاحظون بالإضافة إلى انتفاء البلاغة الشكلية عن السورة، فإنها محشوة بالأهِلّة المحَُمَّلةِ بشروح وتوضيحات، علما بأنها ترجمة حرفية للنص العربي، وهذا معناه أّنّ القرآن لم ينجح في إيصال فكرته أبدًا بدون الحاجة إلى حواشي وأقواٍسٍ تشرح الكلام.
فدعونا نُزُِلِ الأقواسَ من السورة لنرى كيف ستصبح إذا اكتفينا بالترجمة الحرفية دون إضافات وشروح بشرية لكلام الله:
And by Nafs …and Him Who perfected him in proportion;(7) Then He showed him what is wrong for him and what is right for him;(8) Indeed he succeeds who purifies his ownself(9) And indeed he fails who corrupts his (10) Thamud…denied … through their transgression (11) When the most wicked man among them went (12) But the Messenger of Allah … said to them: ˝Be cautious! Fear the evil end. That is the she camel of Allah! … and bar it not from having its drink!˝ (13) Then they denied him and they killed it. So their Lord destroyed them because of their sin, and made them equal in destruction (14) And He … feared not the consequences thereof. (15).
بعد استبدال الشروح بين الأقواس بنقاط الحذف، عُدْ مجددا إلى الآية واقرأها وحاول أن تفهم شيئا، فتصور نفسكَ مسلما انْجَْليزي لا يفهم الضادَ، ويريد أن يطالع القرآن قُبَيَْلَ نومه أو بعد صلاته مطالعةً عقليةً لفهم المضمون لا لترديد الشكل ترديدا ببّغاوِيا كما يفعل أبناء الأمة العربية، فإلى أي درجة سينصدم هذا المسلمُ الإنْجَْليزيُّ حينما سيكتشف أنه لم يستطع أن يفهم شيئا من أبلغ الكتب على وجه الأرض؟
غياب الوحدتين العضوية والموضوعية في القرآن:
تُعُرفَُّ الوحدة العضوية غالبا على أنها ترابط أجزاء القصيدة وسيرهُا في اتجاه واحد فكرًا وشعورًا، كّلّ جزء يرتبط بما قبله، وبما بعده، ولا يجوز تقديم الجزء أو تأخيره، وقد سميت بالوحدة العضويَّة، لأَّنَّ ترابط أجزاء النص الأدبي، يشبه ترابط أعضاء جسد الكائن الحي، أما الوحدة الموضوعية فهي ارتكاز النص الأدبي على موضوع واحد لا أكثر.
وقد كان الفيلسوفُ الإغريقيُّ أرسطو أوّلَ من أشار إلى ضرورة توافر هذين الشرطين في النص الأدبي لأجل إمكانية الحديث عن نص متكامل، فالنص الأدبي ذو العنواِنِ الواحد يجب أن يعالجَ موضوعا واحدًا له علاقة خفية أو ظاهرة بعنوان النص، وهكذا يجب أن يستمر إلى نهاية النص، ولكننا نلاحظ غياب هذا الأمر في الشعر قبل الإسلام والقرآن، أما الشعر ما قبل الإسلام فقدْ جَعَل من تعدد الموضوعات في القصيدة الواحدة ديدَنَ الشاعِرِ، وقد لاحظ النقاد أن الشعر ما قبل الإسلام قد التزم بتراتبية وانتظام في طرح المواضيع، فعادة ما كانت القصيدة تبدأ بالبكاء على الأطلال، لتنتقل من البكاء على الأطلال إلى الهيام بالحبيب ووصف جماله، وغالبا ما يكون الحبيب قاطنَ تلك الأطلال، فيفتتح الشاعر قصيدة بالبكاء على الطلل من أجل الوصول إلى الحديث عن ساكنِها وهو حبيبه، وفي آخر الأمر يصل الشاعر إلى قول الحِكََم والكلام التأملي، فالانتقال من موضوعة إلى موضوعة في الشعر ما قبل الإسلام إنما يحاكي الانتقال من حالة نفسية للشاعر إلى حالة نفسية أخرى للشاعر في حياته الحقيقية الواقعية.
إذن فتعدد الموضوعات في الشعر ما قبل الإسلام ليس انتقاصا من بلاغته بل هو إضافة لبلاغته وتمتين لها، ولكن إذا أتينا للقرآن، فإننا سنلاحظ غياب الوحدة الموضوعية في السورة الواحدة، وهذا ما يتنافى مع قدسية ووَقاِرِ النص الإلهي، حتى ولو كان تعددُ الموضوعات من باب البلاغة.
لنأخذ على سبيل المثال سورة الكوثر، وهي أقصر سورة في القرآن، وهي مع ذلك لم تأتِ بأية فكرة واضحة، تتكون من ثلاث آيات، كل آية تتحدث عن موضوع مستقل، انظر
«إنا أعطيناك الكوثر، فصِّلِّ لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر».
الآية الأولى تبدأ بحرف نصب وتأكيد –إّنّ–، يؤكد فيها الكاتب على إعطاء النبيِّ محمّدٍ الكوثر، أما ما هو الكوثر فهو كالعادة مختَلَفٌ فيه كثيرا، فابن عباٍسٍ قال إنه نهر في الجنةِ أكثر بياضا من الثلج – وهذه قمة التفاهة، لأن الماء السائل لا لوَنَ له، ولو كان الماءُ أبيَضَ فهذا يعني أنه مُجمَّدٌ غير صالح للشرب –، أما سَعدُ بْنُ جُبَيْرٍ فيرى أن الكوثر هو الخير الكثير.
بعدها ننتقل إلى الآية الثانية التي يأمر فيها اللهُ محمدًا بالصلاة والنحر، وهذا الأخير مختَلفٌ فيه كثيرا، فهذا عليٌ يرى أن النحرَ هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وذاك الحسنُ يرى أنه الذبح يوم العيد، وفي كلتا الحالتين لا توجد علاقة بين الآية الأولى والثانية، فالأولى تؤكد على إعطاء شيء اسمه الكوثر، والثانية تأمر بالصلاة والنحر، أما الثالثة فتعود للتأكيد على أن الشانئ هو الأبتر، فأما الشانئ ففيها تأويلات كثيرة ذهبت بالكثيرين إلى اعتبارها دخيلة على العربية، فقالوا إن الشانئ هو المبغض، أي مُبغض محمد، فهو أبترُ أي ذليل حقير.
كما تلاحظون لا توجد علاقة بين الآية الأولى والثانية والثالثة، وإذا أردنا أن نعيد كتابة السورة بعيدا عن السجْعِ وضوضائه والرويِ ودوِيّه فستكون السورة على هذا الشكل «إنا أعطيناك نهر الكوثر، فصِّلِّ لربك واذبح، إن مبغضك لذليل». لتلاحظوا ونحنُ معكم أّنّ الحكمة الجهنميّة والوقار الإلهيّ والنفحةَ الفردوسيّة إّنمّا كانت في شكلِ السورة لا مضمونها، فهي سورةٌ جوفاءٌ مُنْقَعِرٌ داخلُها تخلو من أيّة فائدة تاريخيّة أو علميّة أو تشريعيّة أو حكميّة أو إنسانيّة.
إن هذا التعدد في المواضيع حتى في أكثر السور قِصَراً وصَِغَرا لدليل على التفكك الذي يعتري بعض آيات القرآن من ناحية المضمون، إنها كما قال عباس محمود العقاد في نقده لقصيدة شوقي «كومة رملٍ»، لا يجمعها رابط واحد إلا تشابه الروي والقوافي، وهذا ما جعل البعض يعتقد أنها بليغة، وهذا سببه العقلية الجاهلية التي كانت في كثير من الأحيان تفضل الشكَلَ على المضمون، وهذا موجود في الشعر العربي، فنحن لا نقرأ الشعر لنعرف من قتل ناقة من، إن هذه المواضيع تافهة، ولكننا مع ذلك نقرأ الشعر العربي ونعجب به، هذا لأن التركيب الجذاب والمتألق للجملة العربية هو الذي يجذبنا إلى قراءتها، وكذا لمسة القافية والروي الرنّاّن، كل هذا يجعلنا نغض الطرف عن تفاهة المضمون التي تكون في بعض الأحيان إما الهجاء وإما الافتخار بالقبيلة.
يقول عمرو بن كلثوم:
وَنَحْنُ الحَاكِمُـوْنَ إِذَا أُطِعْنَـا… وَنَحْنُ العَازِمُـوْنَ إِذَا عُصِيْنَـا
وَنَحْنُ التَّارِكُوْنَ لِمَا سَخِطْنَـا… وَنَحْنُ الآخِـذُوْنَ لِمَا رَضِيْنَـا
وَكُنَّـا الأَيْمَنِيْـنَ إِذَا التَقَيْنَـا… وَكَـانَ الأَيْسَـرِيْنَ بَنُو أَبَيْنَـا
فَصَالُـوا صَـوْلَةً فِيْمَنْ يَلِيْهِـمْ… وَصُلْنَـا صَـوْلَةً فِيْمَنْ يَلِيْنَـا
فَـآبُوا بِالنِّـهَابِ وَبِالسَّبَايَـا… وَأُبْـنَا بِالمُلُـوْكِ مُصَفَّدِيْنَــا
إن هذا النص هو جزء من معلقته الخالدة التي يعلي فيها من شأن قبيلته بين باقي القبائل، فهي مجرد قبيلة، وهذا نص يصف تلك القبيلة ومناقبها ويعلي من شأنها، ولكن على الرغم من بساطة الموضوع، فإن للقصيدة مكانة عظيمة في مستودع الشعر العربي وتتربع على عرش القصائد العربية، وشخصيا أُفِّضِّلُها على كثير من المعلقات الأخَُرِ، فهذا إنما يبرهن على أن معيار البلاغة والفصاحة والشاعرية لدى العقل العربي قبل الإسلام إنما يتمثل في الجمالية الشكلية – القوافي، الروي، أساليب البديع، الصور الشعرية–، وأن النص الأدبيَ إنما يُعْلى من شأنه ويبُوّأُ مكانةً عَلِيّةً مهما يكن موضوعه تافها وبسيطا.
الأخطاء النحوية في القرآن:
إّنّ كّلّ من يحيط علما ببعض أساسيات النحو يستطيع أن يميز بعض الأخطاء الواضحة في القرآن، مثل الرفع في محل النصب، والتأنيث في محل التذكير، والجمع في محل الإفراد، ولقد حاول اللغويون ترقيعها بكل الطرق حتى أصبح الخطأ قاعدة يُعَمَُلُ بها لأن ذلك [الخطأ / القاعدة] قد ورد في القرآن، وما وردَ في القرآن معصوم من الخطأ، إذا؛ هو قاعدة، هكذا كان يفكر النحويون مثل الفراء وأبي أسود الدؤلي والفراهيدي وسيبويه والمبرِّد وابن كثير، فهم يفسّرون خطأ القرآن باعتباره قاعدة لا خطأ، وإن خرج عن قواعد اللسان العربي.
المشكلة إذًا، أن كبار اللغويين العرب كانوا مسلمين، فسخّروا علمهم الجهنميَّ بتفاصيل اللغة العربية من أجل تمطيط هذه اللغة، وجعلها قابلة لكل وجهٍ لمجرد أن القرآن قد استعمل الوجهين، ووضعوا الشاذّ محَلَ المتعارف عليه والمقُاس عليه، ولقد قرأت الأخطاء النحوية الواردة في القرآن ووقفت عندَ محاولات الردود، واكتشفت أنها لا تقنع عاقلا، وتتمسك بالقشة بكل ما لهذه الجملة من معنى، وحتى لا نطيل الكلام، دعونا نأخذ نماذِجَ من الأخطاء النحوية في القرآن:
«إَِّنَّ الَّذِينَ آمََنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّاِبِئُوَنَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمََنَ ِبِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَِرِ وَعَمَِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيِْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنوَُنَ»
الصابئون، جمع مذكر سالم، وجمع المذكر السالم ينُصبُ ويُجرُّ بالياء، ويُرفع بالواو كما ورد في الآية، ولكن الموضعَ موضعُ نصبٍ، لأن «الصابئون» معطوف على منصوب، والمعطوف على المنصوب ينُصبْ.
هذه قاعدة راسخة في اللغة العربية ومحاولة الخروج عليها كمحاولة هدم جدار من الإسفلت بالدقِّ عليه، فالصحيح أن نقول «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين»، ولكن علماء اللغة تصدّوا لهذه *الشبهة* بقولهم إنه جاز الرفعُ لطول الفصلِ بين المنصوبات، وهذا مذهب ابن كثير، والحق أنه إذا كانت هذه الآية قد وردت على هذا الشكل في سورة المائدة، الآيةِ التاسعةِ والستين، فإنها قد وردت على وجه آخرَ في سورة البقرة، الآيةِ الثانية والستين «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين».
ولكي يتخلص اللغويون العرب من هذا الإشكال اللغوي والتناقض الواضح قالوا إنه يجوز الوجهان، فالنصب جائز والرفع جائز، وإذا تساءلنا نحنُ لماذا يجوز الوجهان قالوا: لأن القرآن جاء بالوجهين معا، فالقرآن هو القاعدة اللغوية، فإن ورد الخطأ في القرآن صار قاعدةً نحوية بغض الأسماع عن مجرى ألسنة العرب.
وجاء في سورة البقرة «لا ينال عهديَ الظالمين»، والصواب «لا ينال عهديَ الظالمون»، لأن الظالمون مرفوع وهو الفاعل المؤخر، أما عهد، فهو مفعول به منصوب، فالظالم هو الذي لن ينال العهد، وبالتالي فإن الظالم هو الفاعل، فالواجب الرفعُ، وللخروج من هذا المأزق قال اللغويون إن العهدَ فاعٌلٌ مرفوع بضمة مقدرة لاشتغال المحَّلِّ بحركة ياء المتكلم، أي إن العهد هو الذي سينال الظالمين، وبالتالي فإن الظالمين منصوب، لأنه مفعول به وليس فاعلا.
فما أغربه منطقا، وعجبا من العهد الذي صار ينال الظالمين وهو لا ينال.
إن هذين الخطأين في القرآن هما غيض من فيض، وهناك أخطاء نحوية كثيرة جدا تموج بها آيات القرآن مَوْجًا، ولمن يريد التفصيل في الأمر فليعد إلى الكتاب الذي ألّفناه بالاشتراك مع صفوة المفكّّرين العرب من جميع أقطار هذا الوطن الممزّق وهو تحت عنوان – تفنيد مزاعم الإعجاز العلمي – فإن فيه قبسا من ذلك محاكاة سجْعِ القرآن.
لعّلّ أشهر من جارى أسلوب القرآن في التاريخ العربي هو العملاق أبو العلاء، وإني لآسفُ كثيرا حينما أعلم أن الجزء الأكبر من أعماله قد ضاع في الحملات الصليبية على معرة النعمان، ولكن بعضا من كتبه وصلنا، منها كتاب – رسالة الغفران – الذي يعتبر من عجائب الأدب العربي، كما يعتبر المادة الخام التي نقل منها دانتي أليغري ملحمته الخالدة – الكوميديا الإلهية –، كما وصلنا – شرح ديوان المتنبي – و– اللزوميات – أو – لزوم ما لا يلزم –، وهي كلُّها كتب قيمة ذكرتُهُا هنا بهدف الإشادة بهذا الرجل المغمور الذي لم يذق السعادة طوال أربعين سنة من حياته، أعمى، وحيدا، بائسا، يلقي الكلمات ويكتبها كاتبه، فصنع ــ وهو العليل ــ ما لم نصنع نحن الأصحاء.
لقد حاكى أبو العلاء أسلوب القرآن في كتابه – الفصول والغايات – من أجل تبيين حقيقة سجع القرآن والتأكيد على بشريته، فدعونا نقف عند مقتطفات من هذا الكتاب:
المقتطف الأول:
«سبيل السفرِ، والهاجة على نقيع الجفرِ، يشهد خلقها للواحد ملك الدهر، خالق السنة والشهرِ، غبت غيبة بقدر، فما كدت أجد من شَفْرِ، بُدِّلَ مسكين بقبرِ»
المقتطف الثاني:
«أحلف بسيف هبّار، وفرس ضبّار، يدأب في طاعة الجبّار، وبركة غيث مدرار، ترك البسيطة حسنة الحبّار، لقد خاب مضيع الليل والنهار، في استماع القينة وشرب العقّار، أصلح قلبك بالأذكار، صلاح النخلة بالأبّار، لو كشف ما تحت الأحجار، فنظرت إلى الصديق المختار، أكبرت ما نزل به كل الأكبار، نحن من الزمن في خبَار، كم في نفسك من اعتبار، ألا تسمع قديمة الأخبار، أين ولد يعربَُ ونزار، ما بقي لهم من إصار، لا وخالق النار، ما يرد الموت بالإباء»
المقتطف الثالث:
«ما آمل وقد فقدت أبويّ، وأخُذت الشبيبة من يديّ، ومشيت إلى الأجل على قدميّ، حتى كدت أطؤه بأخمصيّ، ووقع كل الأيام عليّ، ونظرت عين المنبّه إلي، آن اشتعال الوضح بمفرقي…»
المقتطف الرابع:
«لله الَغَلَبُ، وإليه المنقلبُ، لا يُعجزه الطلب، بيده السالب والسَّلَبُ، سل قمرا كالمحِْلَب، وهلالاً مثل المخِْلَبْ، وليلاً جُمِعَ من المخََشَلَب يخبرنْكَ بالعجبْ، عن حق مُرجَّبْ عِلمَ ما وراء النّجَبْ، الفًاضُلُ مُوَجَّبْ، والفاجر منتخَبْ، وإلى السكوت صار اللّجَبْ، ونجوم الشمأل والجنوب في علم الله كمقاعد الُّضُّرَباء»
تلاحظون أن المقتطفات في غاية الروعة والجمال، وفي غاية المضمونية إن صح التعبير، فهي وعلى عكس القرآن لا تسوق القوافي سوقَ الجرّاِرِ أذياَله، ولا تخبط خبط عشواءَ في تنقّلها بين المواضيع، فالحكم تتناثر في تلك الغايات، هذا أولا. ثانيا؛ إنني أتحدى أي شخص أن يأتي بأية ملاحظة لغوية على ذلك الكتاب، على عكس القرآن الذي ثارت على لغته الكثير من الاعتراضات.
منشورات ذات شعبية