يحتفي الخطاب الدّيني بتحرير الإسلام للنّاس من جاهلية التّفاخر بالأنساب والأحساب، والارتهان إلى الأعمال التّقية عند تقيم الإنسان استنادًا إلى الآية القرآنية (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، وذلك استنادًا كذلك لما جاء في الأثر النّبوي (لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاّ بالتّقوى).
ولكن سرعان ما يتم الالتفاف على هذه النّصوص من قِبل المحتفين بها أنفسهم، تحت وطئ ضربات الفقه وطيات التّراث المتراكمة بالخيال الجمعي للمسلمين، ذلك التّراث الذي استحال إلى بستانٍ ينضح بالمتعدد والمتناقض من النّصوص التي يُمكن لأيّ صاحب غايةٍ أو مرادٍ أن يجد ما يُدّعم غايته ومراده بواسطة تلك النّصوص التي يعجّ بها بستان التّراث ذاك، حيث نجد مصطلحاتٍ مثل (ابن السّفاح، ابن الزّنا، ابن الحرام).
نصوصٌ قد أخذت تحيزًا واسعًا في الفضاء الفقهي التّراثي الذي لا يزال فاعلًا في وجدان الغالبية السّاحقة من أفراد المجتمعات الإسلامية، بل وما يزال فاعلًا على مستوى التّشريعات القانونية لتلك المجتمعات، وذلك على الرّغم من الآية القرآنية أعلاه، ففي الوقت الذي وسّع فيه القرآن من مظلة المستحقين للإرث لتشمل الفقراء والمساكين في قوله: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُربّىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا). نجد الفقهاء قد ضيّقوا تلك المظلة ليُقصّوا منها حتّى ابن المتوفى (ابن الزّنا)!
فالدّين الذي يفخر أتباعه بأنّه أتى ليحرر النّاس من عنجهيات النّسب ونرجسيات الأعراق، استحال على أيدي أتباعه أنفسهم إلى دينٍ يمنح الحقوق ويغتصبها بناءً على هذا النّسب الذي يزعم فيم حضر الاحتفاء به أنّ الإسلام همّشه وأقصاه، فالإنسان المولود من غير (عقد زواج) يُسمّى باسم ابن الحرام، رغم أنّه لا ذنب له في هذا (الحرام) حتّى يُلصق به إلصاقًا اسميًا أبويًا لا فكاك له منه، ويُحرم بموجبه من الميراث، بل ويشترِط بعض الفقهاء فيذهبون إلى منعه من الشّهادة والصّلاة بالنّاس وإخراجه من أرومة العدو إلى أرومة المجروح فيهم، بل واتهامه بأنّه كالبهيمة بلا روحٍ ولا أمل في صلاحه كما ذكر المفكر الإسلاميّ المعروف (محمّد أبو القاسم حاج حمد) في كتابه (تشريعات الأسرة في الإسلام) والذي قال فيه:(من المنطق توالي نصوص القرآن المجيد المكنون الكريم فالله يخبرنا بحقيقةٍ أنّ ابن الزّنا لا تُوهب له الرّوح، فغالبًا ما تكون قد سُلبت نعمة الرّوح من والديه لحظة الزّنا وإن كانت الرّوح فيهما من قبل، فلا يزني الزّاني إن كان مؤمنًا بروحٍ إلاّ وتكون الرّوح قد فارقته كما تكون قد فارقت الزّاني لحظة الزّنا فكيف يكون الأمر تجاه ثمرة الخطيئة؟
هكذا نجد أبو القاسم حاج حمد ـ أحد أبرز المفكرين المجدّدين بساحة الفكر الإسلامي المعاصر وأكثرهم إنتاجًا معرفيًا ـ يحكم باسم القرآن والله على الإنسان المولود بدون (عقد) زواج بأنّه ابن وثمرة خطئه وأنّه لا روح فيه بمنتهى البساطة، بل ويذهب (حاج حمد) إلى أبعد من ذلك ويصفه ـ أي ابن الزّنا ـ بالفاجر ويشبهه بالبهيمة كما سنرى لاحقًا. وإمعانا من المفكر (حاج حمد) في احتقار (أبناء الزّنا) يُلحق بأرومته ابن نوح الذي شقّ عصا الطّاعة على والده كُفرًا بنبوته، ويستدلّ (حاج حمد) على هذا بأيةٍ من القرآن تقول: (ضرب الله مثلًا للذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتهما، فلم يُغنيا عنهما من الله شيئًا وقيل أُدخلا النّار مع الدّاخلين)، حيث يقول (حاج حمد) في تلك الآية: (وقال الله عن تلك المرأة المنسوبة لنوحٍ أنّها (عملٌ غير صالحٍ)، وقال الله امرأة نوحٍ ولم يقل زوجة نوحٍ، وواضحٌ أنّ تلك المرأة لم تتب إلى الله حتّى يتطهر رحمها فتنمو فيه نطفة التّوبة {وقيل ادخلا النّار مع الدّاخلين})).
ويواصل المفكر الإسلامي (حاج حمد) عملية الاستدلال بالقرآن ليُبرِّر رؤيته الدّونية (لأبناء الزّنا) فيستحضر الآية التي تقول:(ذرِّيةَ من حملنا مع نوحٍ أنّه كان عبدًا شكورًا) فيقول (حاج حمد) بشأنّها: (وهنا الإشارة إلى من هم مع نوحٍ لا إلى نوحٍ نفسه). ليُدعِّم قوله بأنّ أبناء الزّنا ـ كابن نوح ـ حسب زعمه ـ لا خيرٌ يُرتجى ولا عملٌ صالحٌ يُنتظر منهم، ويُوِرد في ذات السّياق أي (حاج حمد) ـ آيةً أخرى تقول: (أولئك الذين أنّعم الله عليهم من النّبيين من ذرِّية آدم وممن حملنا مع نوحٍ ومن ذرِّية إبراهيم) حيث يقول (حاج حمد) في قراءته لتلك الآية: ((فهنا الذِّرية من آدم ومن إبراهيم، أمّا نوح الذي يأتي بينهما فالإشارة ليست إليه ولكن إلى مّمن حملنا مع نوح)).
ثمّ يورد (حاج حمد) بعد ذلك آيةً صرّحت بشكلٍ مباشرٍ بالإشارة إلى ذرِّية نوح والتي تقول: (ولقد أرسلنا نوحًا وابراهيم وجعلنا في ذرِّيتهما النّبوة والكتاب)، ليقول بأنّ تلك الآية لا تتناقض وما ذهب هو إليه من أنّ لا ذرِّية لنوح، وأنّ الإشارة هنا إلى أنّ نوحًا هو الأب الثّاني للبشرية (بعد آدم).ما يُريد (حاج حمد) قوله هنا هو أنّ ابن الزّنا هو عاصٍ بالفطرة حتّى ولو ترعرع في كنف الأنبياء والأتقياء كابن نوح، وما حرصه على تأويل الآيات أعلاه على أنّها آياتٌ تُنْسِب (ابن نوحٍ المُفترض) إلى غير نوح إلاّ لتسويغ وجهة نظره المتعلقة بدونية (أبناء الزّنا) من النّاحية الدّينية في ابتزازٍ أخلاقيٍّ من (حاج حمد) للكيفية التي يتعامَل بها مع النّصوص وتوظيفه لها على نحوٍ أقلّ ما يوصف به أنّه توظيفٌ براغماتيٌّ بل وانتهازي.
ولكن وبغضّ النّظر عن مدى صحّة قراءة (أبو القاسم حاج حمد) لتلك الآيات وتأويله لها، وبغضّ النّظر عن مراده عن ابن نوحٍ أنّه ابن زنا ولا علاقةً بيولوجيةً بينه وبين نوح أصلًا. هل لمفكرنا تبريرٌ (منطقيٌ أو أخلاقيٌ أو عقلانيٌ) لموقفه هذا من (أبناء الزّنا) بعيدًا عن التّبرير الدّيني؟ إذ من حق (حاج حمد) النّظر إليهم على أنّهم شياطين أو خَبَثٌ لا روح طيبةَ فيهم، لكن ليس من حقه اضطهاد حقوقهم القانونية كالميراث وغيره بناءً على رؤيته الميتافيزيقية تلك، فهم أمام القانون بشرٌ حتّى ولو كنت أنت تنظر إليهم بمنظارك الدّيني كبهائم! لذلك فهوـ أي حاج حمد ـ مطالبٌ بألّا يكتفي بالحُجج الدّينية بل يجب أنّ يُبرِّر لنا منطقيًا وأخلاقيًا هذه النّظرة الدّونية منه تجاه (أبناء الزّنا) وحرمانهم من الميراث بل والإيحاء باستحقاقهم للخسف كما يوحي استحضاره لآية (وقال نوحٌ ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنّك إنّ تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجرًا كفّارًا).
يُجيبنا (حاج حمد) فيقول في كتابه المُشار إليه أنفًا: ((لعلّ السّؤال هنا سيكون عن ذنب الابن؟ والإجابة تكمن في قياس معنى الزّنا نفسه، فابن الزّنا يُولد بحسبانه بهيمةً وإذا كانت البهيمة تُحاسب فإنّه يُحاسب، غير أنّنا لا نعرف للبهيمة حسابًا فهي تأتي ما هو خطأ في حسابنا ولكن ليس في حساب الله لها، فابن الزّنا قابل “بحكم أنّه لا روح فيه” لأنّه يعيث في المجتمع فسادًا وليس حسابه كحساب ذوي الأرواح، غير أنّ مشكلته الكبرى تظل في عدم قدرته على التّسامي الرّوحي لأنّه لا روح له، وإن صَلُح كان في ذلك الخير كلّه وإن أفسد فإن ذلك أقرب إلى طبيعته البهيمية)) انتهى الاقتباس.
والحقيقة فإنّني ولأوّل مرةٍ أقرأ لإنسانٍ يُراوغ في إجابة سؤاله ونفسه من طرحه على نفسه! فالسّؤال كان عن ذنب الابن في اضطهاده ورغم ذلك يأتي الجواب بأنّ ابن الزّنا بهيمةٌ ولا روح له ولا خيرٌ يُنتظر منه إلاّ على نحوٍ نادرٍ وشِبه مستحيل، الأمر يُشبه إجابة قاتلٍ عن سؤالٍ وُجِّهَ لهُ عن دافع القتل فيجيب القاتل: لأنّ المقتول كان يستحق ذلك. فالإجابة لا تعدو على أن تكون (لفٌ ودورانٌ)، إذ لماذا هو يستحق ذلك؟كما أنّ جوهر سؤال (حاج حمد) هو لماذا ابن الزّنا يعتبر بهيمة؟ ولماذا لا يُعطيه الله روحًا كباقي البشر وهو من لا ذنب له في خطيئة أبويه؟
لكن لن يطرح (حاج حمد) السّؤال بهذه الصّيغة الواضحة، لأنّه بحكم موسوعيته واطلاعه على الفكر الغربي والإنساني لاسيّما ببعده الحقوقي سيحار جوابًا، فلا سبب منطقيٍ أو أخلاقيٍ أو عقلانيٍ واحدٍ يُبرِّر حرمان طفلٍ أو إنسانٍ من حقوقه الكاملة التي يتمتع بها إخوته، فقط لأنّ المضاجعة التي أتى بموجبها إلى الوجود لم تتضمن ورقةً أو شهودًا وإشهارًا،لا أريد التّطرق إلى مفهوم الزّواج الدّيني فهذا موضوعٌ مختلفٌ سبق لنا وأن عالجناه في مقالةٍ بعنوان:(مفهوم المؤسسة الزّوجية في النّص القرآني)،ولكنّني أريد هنا أن أتساءل حول مدى أخلاقية ومنطقية وعقلانية ربط المنظومة الحقوقية بالأنساب أو بالطّرق التّي تتم بها المضاجعات أو الممارسات الجنسية للآباء بغض النّظر عن ماهية تلك المضاجعات هل تمت بورقةٍ أم بدون ورقة زواج، فحتى لو سلّمنا جدلًا بأنّ الزّنا (حرام وجريمة) فما هو ذنب من لم يرتكب تلك الجريمة؟ وهل يُجرَّد من إنّسانيته ليتحول إلى (شئٍ أو بهيمة) أقلّ من الإنسان نتيجةً لجرمٍ لم يرتكبه هو؟ ولماذا يُعاقَب (ابن الزّنا) بالحرمان من الميراث بدلًا من أن تُفرض له حصصًا أكبر من إخوته نتيجةً لجرم والده بحقه والذي ألصق به هذا المسمّى المحرج؟
فلماذا لا يُحرَم الأب باعتباره الزّاني والمجرم ـ من ماله بدلًا من حرمان ابنه الذي أتى نتيجةً لزناه – من ميراثه؟ الإنسان يظل إنسانًا حتّى ولو زنى هو، ناهيك عن زنا أبيه، الإنسان حتّى القاتل لا يحق لأحدٍ إخراجه من أرومة البشر فما بالك بالأبرياء، فالقاتل يُعامل بالرّأفة حتى وهو يُقدَّم للمشنقة ويُتحرى قدر الإمكان تخفيفًا لآلامه النّفسية بل والبدنية عبر تسريع عملية الشّنق بالحبل أو بغيره.
يُبَرَّر هذا الإجرام الفقهي بحق (أبناء الزّنا) بحرص الإسلام (الفقهي طبعًا) على حفظ الأنساب ونشر قيم الفضيلة والعفة في المجتمع. ولكن ما ذنب هؤلاء البشر حتّى يُتّخذوا كأدوات حربٍ بمعارك البعض من أجل العفّة والفضيلة؟ وهل يجوز تحويل الإنسان إلى (شئٍ) أو أداةٍ أو عظةٍ أو عبرةٍ للرّد عن جريمةٍ هو لم يقترفها، بل العكس وكأنّه هو أكبر المتأذين منها؟
ثمّ هل حقًا حرمان (أبناء الزّنا) من الميراث يمثل إجراءً يُضاعِف من عفّة المجتمع ويُحافظ على قيم الفضيلة به؟ لا أعتقد ذلك، فتلك المفاهيم الفقهية التي تضطهد (أبناء الزّنا) استمر تفاعلها قانونيًا لأكثر من ألف عامٍ دون أنّ تتوقف ظاهرة الإنجاب (سفاحًا)، بل معظم هؤلاء الأطفال يُمثلون بالغ البعبئًا بالنّسبة للأب أو الأم لذلك فسرعان ما يتم التّخلص منه ليستحيلوا إلى مجهولين بالنّسبة لهذين الأبوين، وبالتّالي تنعدم هنا إمكانية أن يُمثل اضطهاد المجتمع لأبنائهم المولودين سفاحًا عقوبةً لهما، أي لهؤلاء الأبوين. ثمّ هل الفضيلة والعفّة مفاهيمٌ فوقيةٌ متعاليةٌ إلهيةٌ حتّى يُضحَّى من أجلها بالإنسان؟ أم أنّ الفضيلة والعفة مفاهيمٌ إجرائيةٌ لخدمة الإنسان وبالتّالي يجب أنّ لا يتم بموجبها التّضحية بالإنسان وحرمانه من الميراث وتهميشه ولفظه اجتماعيًا كما يحدث (لأبناء الزّنا) باسم الفضيلة والعفة والتّطهر؟
إنّ العفة والفضيلة ليست في اضطهاد الإنسان بسبب نسبه وحسبه أو سمِّها الطّريقة التي أتى بها للوجود، ولكنّه في محاربة هذا الاضطهاد عبر كفالة المساواة قانونيًا بين جميع البشر دون تميز، على أيّ أساسٍ كان، العفة والفضيلة والأكثر أخلاقيةً فيما يجب أن نفعله تجاه تلك الشريحة الاجتماعية المستضعفة هو أن نحفظ أنسابهم أو بالأدق ـحقوقهم الأبويةـ عبر اتخاذ الحمض النّووي كإثباتٍ وحيدٍ للأبوة وليس ورقةً أو عقد زّواج! يجب أنّ يتم التّعامل مع الإنسان كإنّسانٍ مجرد. لا تقليل من إنسانيته تلك، بسبب نوع الطّريقة التي أتى بها إلى الوجود. فطالما ثبت عبر فحص الحمض النّووي أنّ هذا الإنسان بيولوجيًا ينتمي إلى (س) من النّاس فهو يتمتع بكافة الحقوق التّي يجب أنّ يتكفل بها (س) أبويًا بما فيها الميراث، وهذا ما يُعمل به اليوم في البلدان التّي تتمتع بسيادة حكم القانون وتستند إلى مرجعية حقوق الإنسان العالمية.
معًا ضد كلّ سلطةٍ ظلاميةٍ تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حبًّا في الاستبداد وتعلقًا بالسّيطرة.
منشورات ذات شعبية