تحليل نفسية الإنسان بين الحتمية والحرية

احتّلّ الإنسان مكانةً مرموقةً في تاريخ الفلسفة فكان هو العنصر الأساسيّ في تطوّر العلوم، وقد استطاع أنْ يوفرّ لنا عدّة علومٍ من بينها علم النفس وعلم الجتماع والفيزياء والبيولوجيا.. هذه العلوم تطوّرت من أصل التفكير الفلسفي الذي كان منبعه التساؤل: من أنا؟

والإنسان كائن ذكيٌّ واجتماعيٌّ بطبعه، وقد استطاع أن يؤسّس دساتير ودوَلً علمانيةً تهدف إلى الإنصاف والموازنة بين متطلبات ضغوط المجتمع النسبيّ ومتطلبّات ضغوط الحتميّة الطبيعيّة، فهو المسؤول عن تطوّر العلوم وعن تغيّر قوانين الدولة، لكن، إذا كان الإنسان مسؤول عن تطوّر العلوم فهل هي قادرٌةٌ بدورها على مساعدته في التحرّر من قيود الطبيعة والمجتمع؟ هل الإنسان حرٌّ حريةًّ مًطلقةً كما يدّعون أم أنه يخضع لمبدأ الحتميّة بشكلٍ مطلقٍ ؟

هل حُصر الإنسان بين الحريةّ والحتميّة الطبيعيّة ؟ وهل تستطيع العلوم الإنسانيّة أنْ تساعدنا على التحرّر من قيود المجتمع أم أنّ قيود المجتمع أفشلت تحقيق الموضوعيّة في مجال الدراسة الإنسانيّة؟

للإجابة عن هذه التساؤلت اللاّّمتناهية  يجب علينا أن نكون محايدين ،ل منصفين فقط، لأن التفكّر في العلوم الإنسانية ومقارنتها مع العلوم الطبيعيّة ليس أمرا هيّنًا، ويجب على الإنسان أن يكون محايدًا بشكل كبيرٍ حتىّ يستطيع حّلّ لغز هذا الوجود العظيم.

في كل مرةٍّ نتدبرّ فيها لنعلم كيف يجب علينا أن نسلك، نجد صوتاً يتكلمّ فينا و يهيب بنا قائلا:

هذا هو واجبك، وعندما نتخاذل عن أداء ذلك الواجب الذي بيُِّن لنا على هذا النحو، يعلو ذلك الصوت ذاته محتجًّا على أفعالنا. ولماّ كان ذلك الصوت يتكلمّ بلهجة الأمر، فإننا نحسّ دائمًاً بأنه لبدّ أنهّ صادرٌ عن كائنٍ يعلو علينا. غير أننّا ل نتبيّن بوضوح من هو أو ما هو ذلك الكائن.

ولهذا لجأ خيال الشعوب من أجل تفسير ذلك الصوت الخفيّ، الذي تختلف لهجته عن لهجة الصوت الإنسانيّ، إلى أن يعزوه إلى كائناتٍ علويةٍّ على الإنسان، وعلينا نحن أن نزيل عن هذه النظرة ما علق بها خلال عصورٍ من صورٍ أسطوريةٍّ، وأن نصل إلى الحقيقة من وراء الرمز. أمّا تلك الحقيقة، فهي فعل المجتمع الذي بثّ فينا، حين عمل على تكويننا خُلقيًّا ،تلك المشاعر التي تملي علينا سلوكنا بلهجةٍ آمرةٍ صارمةٍ، أو تثور علينا بمثل هذه القوة عندما نأبى أن نمتثل لأوامرها ،فضميرنا الأخلاقيّ لم ينُتجَ إلّ عن المجتمع ول يعبّر إّلّ عنه، وإذا تكلمَّ ضميرنا، فإنما يردّد صوت المجتمع فينا، ولشكّ في أنّ اللهجة التي يتكلمّها خير دليلٍ على السلطة الهائلة التي يتمتع بها.

لكنْ، عادة ما نسمع تلك الفرضيّات التي تتكرّر والتي تدّعي أن أخلاقنا من الدين، ونحن نستطيع أن نتفّق مع ذلك لكن بشرط عدم ربط الأخلاق بالميتافيزيقا أو الآلهة وغير ذلك.. فالأخلاق ليست من الدين؛ الأخلاق من المجتمع القادر على اختراع الدين.. فسلطة المجتمع هذه هي حتميّةٌ وتحَرّرُنا منها يكون نسبيًّا وليس مطلقًا، بل إننّا وجدنا المفكّرين أنفسهم والعلماء والفلاسفة ممّن عُرفوا بادّعائهم للحرّية المطلقة مثل”جون بول سارتر” و”ديكارت” متراجعين في الكثير من أقوالهم عندما ربطوا الأخلاق بالمجتمع، بل ويؤكّّدون أنّ”الغيْر”يلعب دورًا كبيراً في تشكيل هويةّ”الأنا”.

مجلة الملحدين العرب: العدد الرابع والعشرون / لشهر نوفمبر / 2014