المطوّع وعبد الشيطان
كان يوسف وهو في سن المراهقة ثائراً على كل شيء، وكان يقضي ساعات في غرفته يستمع إلى موسيقى (الروك) الصاخبة، ويضع أقراطاً في أذنه ولسانه! (بوادر مبكّرة لعبادة الشيطان)!
لكنه في نفس الوقت كان طالبًا متفوقاً، ودرجاته دائما مرتفعةٌ في المدرسة. هذا الأمر وضع أهله في حيرةٍ من أمرهم، فشكل يوسف وسماعه لهذه الموسيقى المزعجة يوحيانً أنه (رايح فيها) لكن أداءه المدرسي يقول عكس ذلك، فتركوه وشأنه بناءً على أنها مرحلةٌ مؤقتةٌ وستمرّ. والده بالذات كان دائما يردد مقولة: “طالما أنه متفوقٌ في الدراسة فلا يكلمّه أحد”. إلى أن جاء اليوم الذي تفتقت عبقرية أحدهم في الأسرة وقًرر أن يبعث له ابن خال والده “بو عبد الرحمن.”
بو عبد الرحمن هذا رجٌلٌ مطوع، دشداشته قصيرة وملتحٍ، لكنه إنسانٌ طيبٌ جداً، ورقيقٌ في التعامل مع الناس، لذلك قررت الأسرة أن تدعوه ليكلمّ يوسف “لعل الله يهديه.”
طرق بو عبد الرحمن باب غرفة يوسف فلم يسمعه بسبب الموسيقي الصاخبة، فما كان منه إّلّا أن أذِن لنفسه بالدخول. حالما حطت عينا يوسف على “بو حمني” قال في نفسه: “أوهوو، والعنتاه!؟؟ من أحضر هذا الكائن إلى هنا؟ وفي الوقت الذي أندمجُ مع ميتاليكا!”
المهم، فهم يوسف “اللعبة” قبل أن يقول بو عبد الرحمن السلام عليكم. دردش بو عبد الرحمن مع المراهق وكان قمةً في اللطف و”الأناقة” في حواره. حاول أن يجرّ الحديث نحو الهداية فقال له يوسف: “توقف! أنا مستعد إلى أن أكمل هذا الحديث معك لكن بشرط أن تجيب عن سؤالٍ واحدٍ. (دِيَْ)؟ “فقال تفضل.
جاءه السؤال كالتالي: “أنت تقول أن المسلمين سيذهبون إلى الجنة وسواهم إلى النار إّلّا من رحم ربي. على أيّ أساسٍ سيرحم الله فلان و (يطنش فلتان)؟” فردّ: ماذا؟ بتوترٍ طفيف. أردف يوسف: “على سبيل المثال، ماذا سيحل بقبائل الأمازون الذين لم يسمعوا بالمسيحية دع عنك الإسلام؟” نظر بو عبد الرحمن إلى يوسف وكأنه صفعه على خده الأيسر وتنحنح وقال: “أعطني يومين وسأرجع لك بالردّ الشافي إن شاء الله”. لم يرى يوسف بو عبد الرحمن ثانيةً إلى اليوم.
المؤمن بالعقائد الدينية دائما يجد نفسه في حالةٍ من الشك الذي يجب أن يتعامل معه بشكلٍ أو بآخر، خاصةً إذا كان هذا الإنسان ذكيًا ويستخًدم عقله، لكن معظمهم ليسوا كذلك. غالبية المؤمنين يأخذون القصص الغابرة كما هي ويعتبرونها من المسلمّات المقدسة. لذلك عندما تسأل المؤمن عن شيءٍ خارج سياق القصة المحفوظة “يتوهق” ولا يستطيع الرّد، كأن تسأله عن الوضع الإيماني لقبائل الكوروبو في حوض الأمازون في منتصف سرده لقصة هجرة الرسول إلى يثرب.
معضلة الإيمان أنه قائمٌ على الغيبيات غير الملموسة، ولزيادة الطين بلةّ هذه الغيبيات منقولةٌ من عشرات الأشخاص عبر مئات السنين. هنا عقل المؤمن سيضغط عليه للقيام بشيءٍ ما ليبرر إيمانه عقلانيًا، فيدخل في متاهاتٍ مثل خلط المعلوم بغير المعلوم أو (لخبطة) العلم بالدين، كأن يقول أنظر كيف أنّ الكون منظمّ فلا بد أن يكون له خالق. طيب، لو سلمّنا جدًلًا أن هذا الكلام صحيحٌ، لماذا الخالق هو خالقك؟ لماذا الخالق هو الله؟ لماذا لا يكون بوذا أو كريشنا أو البقرة الضاحكة؟ وما ذنب من لا يؤمنون بخالقك لتصبّ جامّ غضبك عليهم وتلعنهم إلى أبد الآبدين؟
هل يوجد خالقٌ أم نحن على وجه الأرض بالصدفة؟
لنسأل أنفسنا، هل يمكن أن يكون وجودنا هنا هو مجرد صدفةٍ عشوائية؟ هل نحن مجردّ خطأ مطبعي في مدونة الطبيعة؟ صدّق أو لا تصدّق، علميًا، هذا هو أكبر احتمال! لأنه لولا وجودنا هنا لما كنا أنا وأنت يا صديقي نتناقش حول ما إذا كان وجودنا هو صدفة! شوشتُ أفكارك؟ لا بأس. خذ نفسًا عميقًا، ركز معي واسأل نفسك: هل يوجد أناسٌ في المريخ يتناقشون عماّ إذا كان وجودهم صدفةً أو بفعل فاعل؟ الجواب بالطبع هو كلا! لماذا؟ لأنه لا يوجد أناسٌ هناك ليتناقشوا إذا ما كان وجودهم جاء عن طريق الصدفة. وجودنا هو الذي خلق هذا السؤال وليس العكس. هل وصلت الفكرة؟
أنظر إلى الكواكب في المجموعة الشمسية. ولا أيّ واحد منهم يظُهر أية مؤشراتٍ للحياة، ولا حتى بكتيريا، مما يعُزز فكرة أن الكرة الأرضية هي صدفةٌ إحصائيةٌ بقدر 1 على عدد الكواكب في الكون. كنت أؤمن بوجود حياةٍ في الفضاء الخارجي في السابق، لكن مع مرور الوقت فقدت إيماني هذا بسبب ضعف الاحتمالات. تكرار ظروفٍ طبيعيةٍ كما هو موجودٌ على كوكب الأرض أمرٌ شبه مستحيل إحصائيًا. لذلك أميل إلى تفسير ما يحدث في الأرض من وجود كائناتٍ حيةٍ وذكيةٍ على أنه صدفةٌ إحصائيةٌ صعبة التكرار، مثل الفوز بيانصيب لاس فيغاس الكبير ثلاث مراتٍ على التوالي، نظرياً يمكن أن تحدث لكن الاحتمالات ضئيلةٌ جداً.
باختصار، يمكن القول إننا هنا بدون سببٍ أو هدفٍ معين. هي مجموعةٌ من الظروف الطبيعية التي تظافرت، فكنا وانتقلنا من البلانكتونات إلى السمك إلى الضفادع إلى الزواحف… إلى البشر! وهذا شيءٌ يصعب استيعابه من قبل الإنسان الذي يصُرّ على وجود سببٍ وهدفٍ سامٍ لوجوده لكي يرُضي غروره وتعاليه على الكائنات الأخرى مثل القطط والكلاب والذباب التي ستختفي عندما ستموت، بينما هو ستظهر له أجنحةٌ تجعله يخترق الرمال المدفون تحتها في مقبرة دمياط ويحلق فوق الغيوم إلى مكانٍ اسمه الفردوس حيث يعاشر الحسناوات ويشرب النبيذ. يعني يتحول الإنسان من جثةٍ هامدةٍ يأكلها دود الصحراء إلى زير نساء فوق الغيوم، هكذا! تستحق جائزة نوبل في خداع الذات يا مسكين.
يا للهول! رابعة العدوية تطير بدون أجنحة!
أتذكر أني شاهدت فيلماً مصرياً بالأبيض والأسود عندما كنت طفًلًا عن رابعة العدوية، جسّدت دورها ليلى مراد – على ما أعتقد – المهم، في نهاية الفيلم تموت رابعة وفجأًةً تخرج من جسدها صورٌةٌ أخرى منها (تمثل روحها) وتشرع بالتحليق في السماء وهي تغني بصحبة نساءٍ أخريات (يفٌترض أنهم ملائكةٌ يتبعون قانون منع الاختلاط). لم أستوعب ما حدث. كيف تطير ليلى مراد بدون أجنحة؟ أفهم أن سوبرمان يطير بدون أجنحة لأن قواه خارقة لكن ليلى مراد؟؟ قد يبدو هذا شيئاً سخيًفًا لك لكنّ عقل الطفل يريد أسباباً لما يراه فلا يمكن أن يحدث شيءٌ هكذا بدون سبب (لهذا يقال أن الطفل عالمٌ باحثٌ بالفطرة قبل أن يتمُ تشميع عقله بخرافات منكر ونكير وبقية الأديان الأخرى).
هكذا يفكر المؤمن، نحن هنا، إذا لا بد من وجود سببٍ وهدفٍ لذلك، وبما أننا أقوياءٌ وقادرون عًلى الفهم والبناء والتدمير، إذاً السبب لا بد وأن يكون شيءٌ خارقٌ أعظم منا مثل سوبرمان!
فيأتيك الدين بالإجابة “المنطقية”، نعم يا مؤمن سؤالك في محله. هناك سببٌ عظيمٌ لوجودك هنا. هذا السبب اسمه الله أو بوذا أو كريشنا أو النمر الوردي حسب مقر إقامتك والاسم المدون في بطاقتك الشخصية.
معقول؟ نحن هنا بالخطأ! مستحيل! كل هؤلاء على خطأ!
مشكلة المؤمن أنه يحتاج أن يذكّّر نفسه دائما أنّ إيمانه صحيح، لذلك لديه طقوسٌ تذكيريةٌ مثل الصلاة والصيًام والحج. لاحظ، جميع طقوس المؤمنين العلنية تؤدى بشكلٍ جماعي. السبب هو تمكين المؤمن من الطبطبة على كتف أخيه المؤمن ليهنئه بإيمانه ويجعله يقول لنفسه: “لا يعقل أن كل هؤلاء على خطأ، أكيد أنا صح!”، إذ أن زيادة العدد في عقل المؤمن تعني صحة الفكرة.
هذا بالنسبة للمؤمن العادي البسيط، لكن ماذا عن المؤمن الذكي المتعلم؟ هذا مشكلته مستعصية لأن الطقوس التذكيرية وكثرة العدد لا تكفيه فلديه عقٌلٌ نشطٌ ويلحّ عليه بشكلٍ دائمٍ لدرجة أنه أنهكه من كثرة ترديد “أعوذ بالله من الوسواس الخناس”. الحل الأمثل للمؤمن الذكي هو البحث عمّن يمُثل نقيض عقيدته ليحاول أن يثبت خطأه “بالعقل” مما يعُزز إيمانه بصحة عقيدته. إذاً، لا بد من معارك مع طواحين الهواء الملحدة ليُخرس عقله وإلحاحه المستمر على تأكيد صحة العقيدة وسلامتها.
فتشّ عن الملحد
لذلك تجد أنّ المؤمن الذكي يلهث وراء الملحدين واللادينيين ليدخل في جدلٍ معهم لكي يثبت لنفسه خطأ أفكارهم وصحة معتقده. لاحظ أنّ الخطاب ليس موجهًا للملحدين بقدر ما هو موجهٌ للمؤمن نفسه. فهو يقول لهم أتحداكم أن تثبتوا أني على خطأ! طيب، إذا كنت مقتنعًا بإيمانك لماذا تلهث وراءهم ليثبتوا صحة ما تقوله من خطئه؟ (ليش حاسدهم؟) اتركهم وشأنهم وكفا الله المؤمنين شرّ القتال. الجواب: أنت بنفسك تشك في إيمانك وتحتاج إلى معركةٍ فكريةٍ توهم نفسك أنك انتصرت فيها لتقول لنفسك: أرأيتم؟ إيماني صحيح والدليل “المادي” هو أنني انتصرت على هذا الملحد بالعقل والمنطق. ليرد عليه مؤيدّوه الأقل ذكاءً منه: “بارك الله فيك وأكثر من أمثالك. بصراحة يا سيدي أفحمته وأثبتّ له أن الإسلام هو دين العلم والعقل، بلا بلا بلا… جعلها الله في ميزان حسناتك وحساباتك وقصورك وجواريك وغلمانك وخمرك في الجنة.”
لكن، من هو الخالق ومن هو المخلوق بالضبط؟
يعُرّف عالم النفس سيغموند فرويد مفهوم “النظرة إلى العالم” كالتالي: “هي بناءٌ فكريٌ لحّلّ كل مشاكل وجودنا بشكلٍ موحّدٍ عن طريق فرضيةٍ عامةٍ وشاملة”. وبناءً على ذلك يقول فرويد أن الله هو بناءٌ فكريٌ طوّره الإنسان على مرّ العصور لإعطاء حياته معنىً وهدفاً مقبوًلًا. وعندما سُئل فرويد: “هل هناك معنى للحياة؟” أجاب: “علميًا، لا معنى للحياة على الإطلاق، بل أن السؤال نفسه لا معنى له”. وعندما سُئل: “لكن ماذا عن القيم الإنسانية والأخلاق؟” رد فرويد: “أنها موجودٌةٌ لتسهيل الحياة بالضبط مثل قوانين المرور والتي اخترعها الإنسان لتسهيل حركة السيارات”. الإنسان من منظور فرويد يعمل وفق “مبدأ المتعة” والقاضي أن الإنسان بشكلٍ عام يسعى إلى ما يجلب له المتعة ويتجنب ما يجلب له الألم”.
كل إنسانٍ لديه “نظرٌةٌ للعالم” والمسلم لديه نظرٌةٌ تقول أنّ الله هو الخالق ومحمد هو رسوله. إذاً كل ما يأتي بعد ذلك من متعةٍ وألمٍ مبنيّ على هذه الفرضية الشاملة ونفس الشيء بالنسبة للمسيحي والبوذي…إلخ.
حياة المسلم تأخذ معناها من فكرة وجود الله والتي بدونها تصبح حياته عديمة المعنى. المسلم يحتاج إلى فكرة الله لذلك يقول فرويد أن المسلم خلق الله ليعطي معنىً لحياته، إذ من الصعب عليه تصديق أن حياته ليس لها معنى وأنه كما جاء سيرحل، أي من لا شيء إلى لا شيء.
ختامًا، يقول سفر التكوين أن الله خلق الإنسان في صورته لذلك نجد أن الرسومات التي تصور الله في العالم المسيحي تظهره على شكل رجلٍ مسنٍ لكنه مفتول العضلات وله لحيةٌ بيضاء. الصفة الأولى هي رمزٌ للحكمة والثانية هي تعبيرٌ عن الجبروت. ومع أن الدين الإسلامي يحرّم الرسم إّلّا أن صفات الله في القرآن هي صفاتٌ إنسانيةٌ بحتة مثل القوة والبصر واستخدام اليد والصبر والغضب والجلوس، كلها صفاتٌ إنسانيةٌ أسُقطت على الله لكن بشكلٍ مضخّم. هذا يطرح التساؤل: “هل خلق الله الإنسان على صورته أم أنّ الإنسان هو من خلق الله على صورته؟” لاحظ صور بوذا، على سبيل المثال، بوذا الصيني سمينٌ وملامحه صينيةٌ، بينما بوذا الهندي نحيفٌ وملامحه هندية. نفس الشيء بالنسبة لآلهة الهندوس فشكله هنديٌّ خالصٌ لأن الدين الهندوسي هو دينٌ هندي 100٪.
هل هناك احتمالٌ أن الدين الإسلامي حرّم رسم الرسول لأنه لا يريد محمدًا عربيًا وآخر فارسيًا وثالثاً إندونيسيًا ورابعًا زنجيًا أفريقيًا وهكذا. أعتقد أن الأمر واردٌ لأن الرسومات القليلة للرسول من وسط آسيا تصوره بملامحٍ آسيويةٍ منغولية! الخلاصة، لكل إنسانٍ ربه الذي يحتاجه لإعطاء معنىً للحياة وهذا الرب عادًةً له ملامحٌ ولغةٌ متطابقةٌ تماماً مع ملامح ولغة من يعبده، فمن هو الخالق ومن هو المخلوق؟
منشورات ذات شعبية