إن نظرنا لبعض سور القرآن القائمة على مقاطع صغيرة مسجوعة، لا بد وأن يلفت أنظارنا وجود بعض السور بها استثناء مفاجئ للطول المعهود يُحدث اضطرابًا في الموسيقى الناجمة عن تناغم المقاطع الصغيرة الأخرى. ومن ذلك ما أشار إليه الدكتور كامل النجار في قراءته النقدية لما في سورة المدثر، إذ نجد آياتها القصيرة المسجوعة بالراء يتوسطها فجأةً آية طويلة بحجم نصف صفحة:
إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ
هذه الطريقة توحي بأن الكاتب لم يؤلّف السورة هكذا، وإنا ألّفها على الآيات القصار ثم أُضيفت تلك الآية الطويلة لاحقا، كما قال الدارسون ونوه بذلك الدكتور النجار، فالكاتب يحافظ في نثره على الإيقاع ولا يكسره بهذه الطريقة إلا اضطرارا.
فالآية تتحدث عن التداعيات التي أثارتها الآية السابقة لها، وتحاول أن ترد على ردود الفعل التي سببتها، فعندما قال القرآن بأن النار يقوم عليها تسعة عشر، سخر الكفّار من ذلك وقالوا: كيف لتسعة عشر شخصا أن يقوموا على كل هذا العدد الهائل من الخلائق؟ فنزلت الآية الجديدة لتقول بأنهم ليسوا أشخاصا عاديين بل إنهم ملائكة.
وهذا دليلٌ على أنها آية لاحقة التنزيل، لأنها تُصحح لهم ما قالوه بأنهم أشخاص، وتقول بأنهم ملائكة، وبالتالي فإن الآية هذه لم تنزل مع السورة وإلا لما قال أحد بأنهم أشخاص!
ثم تستمر الآية بالقول بأن العدد حُدّد بتسعة عشر كي لا يرتاب الذين أوتوا الكتاب لأن الآية كالعادة تتحدث عن نفس العدد من حراس النار الموجود في الكتاب المقدس.
ولو حاولت نزع الآية من السياق، ستجد النص قد أصبح أكثر ملاءمةً وبدون اختلالٍ في الموسيقى، فالضمير في الآيات السابقة للآية الكبيرة، كان يعود على جهنم واللاحقة أيضًا، ولذلك اضطر الكاتب لأن يفتعل ضميرًا في نهاية الآية المدخلة يعود على جهنم أيضًا، فقال: وما هي إلا ذكرى للبشر.
ويبدو أنه لم يوفقّ في ذلك، فالآية التي تليها باربع آياتٍ تقول أنها: نذيراً للبشر. بنفس المعنى ونفس القافية وهذا التكرار للمعنى وكلمة القافية ليس حميدًا، بل يدلنا على مدى الافتعال في ادخال هذه الآية!
وعمومًا فلا نحتاج لأكثر من احتواء هذه الآية لرد على تداعيات ما كانت أصلاً لتقال لو كانت هذه الآية موجودة من البداية كي نتاكد من انها مدخلة لاحقًا، والمسلمون في الأغلب لا يعترضون على مثل ذلك فمن المعروف أن السور في الأغلب لا تنزل كلها دفعةً واحدة، بل تنزل آياتٌ لاحقةٌ تتخلل الآيات السابقة كثيرا.
ولكن لنطبق هذا المنهج النقدي على سورٍ أخرى، مثل جارتها سورة المزمل:
تلك التي هي أيضًا مسجوعةٌ على اللام في آياتٍ قصيرةٍ نسبيًا، ولكن في خاتمتها نجد آية شاذة، هذه المرة خالفت في الطول المتبّع، فكانت أطول كثيراً جدًا من الآيات الأخرى المتقاربة في الطول، كما خالفت القافية أيضًا، فهي منتهية بالميم خلافاً للسورة التي تنتهي كل آياتها باللام كما نرى:
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
فالآيةٌ الأخيرة تنسخ فرض قيام الليل، ومن الواضح أنها أضيفت لاحقًا، لأن الآية التي قبلها مناسبةٌ لختام السورة، وتخبرنا مصادر الإسلام نفسها بأن هذه الآية أنزلت بعد عامٍ من فرض قيام الليل، بينما هذه السورة من أوائل ما نزل في الإسلام أي قبل مرور عام على الإسلام نفسه، ما يجعلنا أكثر ثقةً في منهجية النقد هذه.
أيضًا لو نظرنا إلى سورة الشعراء التي تنتهي بآية هي ضعف الطول الطبيعي لآيات السورة:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)
واضحٌ أنها آيةٌ مضافةٌ لاحقًا، بعدما ذمّ محمد الشعراء الذين كانوا يهجونه، ولكنه استخدم في ذلك لغة تعميمٍ يفزع لها أيّ شاعرٍ، ومن المؤكد أن الشكوى من الشعراء هي التي سببت إدخال الآية الأخيرة!
ولنذهب الآن إلى سورةٍ أخرى، وهي سورة الطور، حيث نجد أنّ قاعدتنا هذه تنطبق بشكلٍ مذهلٍ وكأنهّا قانون فيزياء، شذوذٌ في الطول، يرافقه شذوذٌ في المضمون:
(16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ ۖ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) ۞ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
إنها آيةٌ تتحدث عن إلحاق الأبناء بالآباء، حشرت حشرًا في وسط آياتٍ تصف الجنة!
بغضّ النظر عن التناقض في الآية الجديدة وأنها تبشر بشيءٍ يتعارضٍ بشكلٍ صارخٍ مع قاعدة العدل المذكورة في نهايتها، لكن المهم أن نلاحظ مدى عدم الاتساق الذي يصاحب كل ترقيع لاحق، بشكل تكرر بما يكفي لتأكيده بشكل كامل.
هذه المنهجية اذًا قوية، يزيدها قوًةً أن في القرآن سورٌ أخرى كثيرٌةٌ مبنيةٌ على الجمل القصيرة وليس فيها مخالفةٌ واحدٌةٌ للطول المتبع، إذ ليس فيها أي استدراك، مثل الرحمن والذاريات والقمر والقيامة والواقعة وعبس وغيرهم الكثير.
مما يجعل تغيير الطول هو شيئاً شاذًا، لوقوعه في مواضع قليلة وعند الاستدراك فقط يتم ترقيع السورة بحشو مفتعل. ورغم ما في هذه الملاحظة من تشكيكٍ في كون القرآن وحيٌ من إلهٍ فصّله منذ الأزل، فالمراد هنا أن نقرأ بهذه النظرة الجديدة قصة الغرانيق. فقصّة الغرانيق والملاحظة تلك تقوي إحداهما الأخرى، بما يكفي لكي يصمت المسلمين طويلاً، بعد أن يروها بالعين الجديدة.
فما قصة الغرانيق؟
روى الأمام السيوطي وغيره، لما رأى رسول الله صّلّى الله عليه وسلم توّلّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عماّ جاءهم به، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة النجم فقرأها رسول الله صّلّى الله عليه وسلم حتى بلغ “أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى” فألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدّث به نفسه وتمنـّاه فقال: “تلك الغرانيق العـلى وإن شفاعتهن لترتجى” فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله في قراءته للسورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين ثم تفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمدا نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله صّلّى الله عليه وسلم، أتاه جبرئيًل فقاًل: ماذا صنعت؟ تلوْت على الناس ما لم آتكَ به عن الله سبحانه وقلت ما لم أقل لك !! فحزن رسول الله حزنا شديداً وخاف من الله خوفا كبيرا فأنزل الله هذه الآية: “وما أرسلنا منً قبلك من رسول ولا نبي” فقًالتً قريش: ندم محمد! .
ورفض العديد من العلماء إسنادات هذه الرواية بينما قال الحافظ بن حجر: إنّ كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً مع أنّ لها طريقين صحيحين.
ونقول نحن بأن القصة لا تستمد قوتها فقط من تعدد طرق إسنادها، مثل ابن أبي حاتم وابن جرير والبزار وقال به قتادة ومحمد بن اسحاق وغيرهم، ولا من وجود آية:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
التي أجمع المفسرون فيها على أن “تمنى” بمعنى “قرأ”، وقال بذلك القرطبى وابن كثيرٍ وغيرهما. أي أن الشيطان يلقي في قراءته شبهات ٍوتخيلات باطلة يتوهمها المستمعون أنه قالها، ولكن الله ينسخها بعد ذلك ويحكم في كتابه ما قاله هو فقط، وواضح ًجدا أنها تعني تلك الحادثة، وإلا فيم نزلت هذه الآيات؟ وهل يزيد الله القصة قوة بأن ينز ٍل آيات تبدو وكأنها تؤكد حدوثها.
الله اذًا من جاء بمصطلح الآيات الشيطانية، الذي استخدمه كتابٌ بارزون من أمثال سلمان رشدي.
والآن لننتقل إلى سورة النجم، نجد فيها آياتٍ قصيرةٍ مسجوعةٍ على الألف التي قد ترسم ياءً إن كانت ألًفًا ليّنة، وبالتالي فإن الترقيع فيها سيكون صعبًا (على الله) وسينكشف بطول الآيات المدخلة.
كما نجد أن طول آياتها يستمر قصيرًا في أول السورة ووسطها، حتى نصل إلى آية الأصنام، لنتفاجأ بعدها بآياتٍ طوال، تتحدث عن الأصنام ذمًا، وأنها ليس لها شفاعة، إنا الشفاعة لمن يرتضيه الله فقط، حتى ملائكة السماء لا تشفع، وأشياء من ذلك.
كلها تحاول إثبات عكس ما قيل في آيات الغرانيق من القيمة العليا للأصنام وأنها لها شفاعةٌ عند الله. وبالطبع لم يستطع الحفاظ على المقاطع القصيرة فاضطربت السورة الرتيبة بآياتٍ طوال ضخام تفضح الترقيع اللاحق:
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهيٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23) أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَىٰ (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى )27( وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا )28( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )29( ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى )30( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى )31( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )32( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى )33( وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى )34( أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى )35( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى )36( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفي )37( أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )38( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى )39( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى )40( ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفي )41( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهي )42( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكي )43( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
إنها آياتٌ أدخلت لاحقًا للتغطية على القصة، ولكنها أكّّدتها لسوء حظ محمد الذي لا يحُسن الترقيع، فدائمًاً ما ينكشف بسهولة، ولو كان قرآنه إلهيًا ومنزلّاً من السماء من عند حكيم عليم قادر، فلماذا إذًا لم يكمّل الله بقدرته الخارقة السورة بطريقةٍ مساويةٍ لطول آياتها؟
إذا كنّا نأخذ هذا العيب في النص على أيّ كاتبٍ سواءً أكتب النص مرة واحدة أو رقعه بعد كتابته، فلماذا لا يؤخذ على الله اذًا؟
أيضًا نلحظ اختلالاتٍ أخرى، فبعد آيتي: “أفَرَأيَتْمُ الَّلَّاتَ وَالعُزىَّ (19) وَمَنَاَةَ الثاَّلثِةَ اْلْأخْرَى (20)، تأتي آيتان تتحدثان عن موضوعٍ آخر تمامًا، وهو نسبة البنات إلى الله، بينما القريشيّون يفضلون نسب الذكور لأنفسهم، وكأنه لا يليق بالله انتساب أشياء مثل البنات لا!
وهكذا نجده انتقل من الأصنام إلى هذا الموضوع، لقد كان محمد يمتدح الأصنام ويعطي لها مكاناً في عالمه السماوي، ثم رأى أنها فكرٌةٌ سيئةٌ، فسارع إلى نسبها للشيطان الرجيم.
ما الحكمة في أن يدور الله كل هذه الدائرة، وأن يسمح للشيطان بالعبث، ثم ينسخ آياته الشيطانية وينزل آياتٍ تخبرنا أن الشيطان يعبث دائمًاً معه وأنه أمرٌ معتاد؟ لماذا لم يمنعه من البداية وينُهي المسألة!
إنه يتعلل بحجة الأستاذ الضعيف الذي يخطئ أمام تلاميذه، “إني كنت اختبركم”، ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة، يا للبؤس!
ما لا يصدق حقًا، أن هناك أشخاصٌ عقلاء وقورون، يحترمون أنفسهم ويحترمهم الناس، ويتعبدون بتكرار وترديد هذا الكلام، ويعتقدون أنّ تكراره فضيلة، يجلسون في خشوع ليرددوا ما معناه:
لقد عبث الشيطان معي كالعادة! فلا تنخدعوا إنه يعبث معي دائمًاً، قد عبث الشيطان معي كالعادة فلا تنخدعوا، إنه أنا من تركته يعبث، قد عبث الشيطان اللعين كالعادة ولم أمنعه اختبارًا لكم، أنعمت عليكم بالفهم الصحيح للموقف بأني أردت أن يعبث أحدهم معي من البداية، دعكم من الأغبياء الذين يظنون أن هناك نقصًا في قدرتي!
مثل الشخص الذي انهالت عليه اللكمات فتورمّ وجهه، فصار يدّعي أنه كان يسدد اللكمات بوجهه إلى يد لاكمه ،أو يدّعي أنه أراد أن يجعل وجهه يتورم ليرى مدى ثقة أصدقائه به، هل سيصدقون حقًا أنه ضُرب؟ أم سيثقون فيه ويعلنون إيمانهم الكامل بأن الوجه من كان يلكم اليد، وانه هو من أراد أن يلُكم؟
وهذا هو حال الدين دائمًاً، وهذا حال أيّ مدّعٍ للعصمة، عندما يواجَه بالنقص والخطأ الذي يلازم البشر دومًا، فلا يجد طريقا إلا الالتواء. والالتواء فقط، وكلنّا نلاحظ أساليب رجال الدين الملتوية في حياتنا، لأن أمثال هؤلاء يحاولون إلصاق الكمالً بالنقص.
إنّ الكافرون بالله – إن وجد – هم المؤمنون بأي دين، فهم حقًا من كذبوا على الله وقالوا عليه مالا يعلمون، ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً وقال أوحى إلى ولم يوح إليه شيئاً؟
اللهّم لا أحد، إلا رجلاً افترى على الله الكذب – وكفي به إثماً مبينًا – ثم قتل وحرق وذبح وسرق وسبى واسترق قومًا بتهمة أنهّم قد افتروا على الله الكذب، بلى إن المؤمنون هم الكافرون، وعليهم هم أن يخافوا من احتمال وجود إلهٍ غيورٍ على سمعته، وبالمصطلح الإسلامي: سيعذّب من قامت عليه الحجة، وإني لا أرى حججًا أقيمت في وجه شيءٍ في التاريخ أكبر من تلك التي أقيمت في وجه الأديان!
ولكن المؤمنين يعاندون وهم مستكبرون، قد بيّنا خلل الآيات لقومٍ يعقلون، أما من لا يستطيعون سمعًا ولا هم يبصرون، أولئك الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، الذين ليس لهم أدمغةً (وليس قلوباً) يفقهون بها أو أعين يبصرون بها أو آذان يسمعون بها، لأنه طمس عليها طبقة كثيفة من غبار الدين، أولئك لن يفهموا سواء علينا أشرحنا لهم أم لم نكن من الشارحين.
أعتذر عن استخدام قليلٍ من أسلوب الله المهين، ولكن لا بأس في أن يجرّب المؤمنون كلام ربهم على أنفسهم، فهم حقًا الذين إذا قيل لهم اتبعوا ما يكشف العقل قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، ولو كان أباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون!
سلام عليكم لا نبتغي المعاندين، ومن يصُرّ مستكبراً بعدئذٍ على أنّ رواية محمد عن الشيطان صحيحة نقول: إذًا فقد أتى الشيطان بحديثٍ مثل القرآن، بدون أن يستعين بكل الإنس والجان، فما بالك لو استعان، ولم ينكر أحدٌ من الحضور ركاكة هذه الآيات فقد تماشت مع القرآن تمامًا، وفي ذلك هدمٌ آخر لادعاء القرآن بأنه لا يؤُتى بحديث مثله.
أيهّا السادة. لا تكونوا في مرية مما يعبد هؤلاء، فما يعبدون إلا كما يعبد آباءهم، إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرولون، ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين، فليس الإيمان للعاقلين. أما لأولئك الذين يعقلون: إنّ قصة الغرانيق قد حدثت بالفعل، وهي (على ذمّة علماء الإسلام) إن كانت قد حدثت فهي ترفع الثقة عن الوحي، بلى أيها السادة والسيدات، إنّ محمدًا كان يختلق القرآن، وهو من اخترع هذا الدين. وسلامٌ على المرسلين وعلى الله رب العالمين (سلام الوداع) والحمد للعقل الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني لما كتبت وتقرؤون. قد جاء العقل إليكم بالحق فاتبعوه لعلكم تفلحون.
منشورات ذات شعبية