مقدمة للنمذجة العلمية
العلم بشكل عام لا يقوقع نفسه بالقيام بالمشاهدات فحسب, بل يتعدى ذلك ويصبح من شأنه بناء وتطوير نماذج لوصف وتنبُئ هذه المشاهدات. والنمذجة العلمية هي تلك العملية التي تعنى ببناء تعابير رياضية أو مفهومية أو فيزيائية لظواهر مفترضة يصعب مشاهدتها بشكل مباشر. والنماذج العلمية تستخدم لوصف أو تنبؤ سلوك نظم أو كيانات معينة.
والأمثلة على النمذجة العلمية كثيرة, بل ربما تعد النماذج العلمية لدى بعض الفلاسفة كوحدات بناء للعلم. ولا يسعني إلا أن أذكر أحد أكثر النماذج العلمية شهرة وهو نموذج بور للذرة الذي إقترح أن ذرة الهيدروجين (بوصف الهيدروجين أحد أكثر العناصر الكيميائية بساطة وكثرة) يتكون من نواة مركزية موجبة تدور حولها الإلكترونات السالبة الشحنة. وضع نموذج بور للذرة من قبل العالم بور في العام 1913. وعلى الرغم من أنه لم يتمكن في ذلك الوقت من المشاهدة المباشرة لذرة الهيدروجين إلا انه بنى نموذجه بشكل كامل من حسابات ومعادلات رياضية بالإضافة الى تجارب أجراها. ولا يزال الى اليوم يعد نموذج بور للذرة نموذجاً ناجحاً ويتم تدريسه وإستخدامه لوصف وتنبؤ الكثير من سلوكيات الذرة. كإصدار الفوتونات مثلاً وبنيت على نموذج بور الأجهزة الطبية المستخدمة في التصوير الإشعاعي XRAY والتي تستخدم اليوم وبكثرة وبنجاح في معظم مستشفيات العالم. وفي العام 2013 قرأت مقالة علمية تتحدث عن تصوير كمومي لذرة الهيدروجين كان قريباً جداً من نموذج بور لها.
نموذج بور
تصوير كمومي
مثال أخر على النماذج العلمية, هو النموذج القياسي للجسيمات والقوى الأساسية – والذي يحتوي على تفصيلات علمية أكثر مما يحتملها هذا المقال. بني هذا النموذج في العام 1974 كي يكون متوافقاً مع نظرية النسبية وميكانيكا الكم. ويؤكد التاريخ كثيراً من التجارب التي زادت من مصداقيته اكثراً فأكثر. إحدى الجسميات التي يفترضها هذا النموذج هي الكواركات quarks والتي تعد المكونات المفترضة لنواة الذرة والتي لم يتم دراستها مطلقاً بشكل منفصل (بشكل حر) وهذا هو ما يتنبئ به النموذج في الواقع (أن لا تكون هذه الجسيمات حرة).
النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات ونموذج الإله الذي يقود عربة الشمس
لعل الكواركات والإلكترونات ليست حقيقة, رغم أنها جزء من النموذج القياسي الناجح جداً لفيزياء الجسيمات. لا يمكننا الحكم في ذلك بشكل مطلق. ولكن يمكننا القول, وبشكل أريحي, أن جزءاً من عناصر النماذج الأقدم مثل الأثير ليست جزءاً من العالم الحقيقي, لأنها لا تتطابق لا مع المشاهدات ولا مع التنبؤات ولا مع أي قياس رياضي أجريناه ولفشل تلك النماذج القديمة ضمن مفاهيم العلوم المعاصرة الشائعة. حتى أصبح من السخف مقارنة نجاح تلك النماذج القديمة مع النموذج القياسي الفيزياء الجسيمات الحالي.
وإن إستخدام النماذج, لا يقتصر على الممارسة الإحترافية للعلم. فكثيراً ما نستخدم النماذج في التعامل مع مشاكل الحياة العادية. كمثال, نحن نتصور الشمس كرة تشرق في الشرق وتغرب في الغرب. ويمكن للمسافرين أن يصلوا الى وجهتهم بأمان بمشاهدة بسيطة لشروق وغروب الشمس من خلال بناء نموذج يكون فيه الشرق على يمينهم والغرب على يسارهم وبالتالي سيكون الشمال أمامهم والجنوب وراءهم. ولكن هؤلاء المسافرين لن يحتاجوا في أي حال من الأأحوال الى عناصر أضافية, وبالخصوص عناصر ما ورائية. كما تصور الإغريق القدماء بأن الشمس هي أبولو الإله ذو الخوذة الذهبية يقود عربته في السماء. وتصورها الصينيون طيراً ذهبياً. لا يوفر هذين العنصرين الماورائيين أي عون إضافي لمسافرينا في ترحالهم. لهذا, فإنعدام الضرورة بالإضافة الى غياب أي أدلة, يشهد على عدم وجود إله أو طير كهذا.
ومن الجدير بالذكر, يتكلم الفيزيائيون عموماً كما لو أن العناصر غير المشاهدة في نماذجهم, كالكواركات, هي جسيمات “حقيقية” أو “واقعية” بشكل مطلق. ولكن هذا إفتراض لا يملكون طريقة لإثباته (الى يوم كتابتي لهذا المقال). وفي الواقع ليس لديهم حاجة أو رغبة لإثباته. فنماذج الفيزياء وعناصرها غير المشاهدة هي إختراعات بشرية تمثل أفضل ما يمكننا فعله في وصف الواقع الموضوعي. حين يصف نموذجاً ما بنجاح مدى واسع من المشاهدات, بإستطاعتنا ان نثق بأن عناصر هذه النماذج لديها ما تفعله مع أي واقع خارجي ما, ولكن أقل ثقة بأنها تشكل الواقع ذاته.
تكوين نموذج الله
مثله مثل الكواركات, الإله إختراع بشري قائم على أفكار بشرية. ومصداقية إدعاءنا بأن الألهة التي تعبدها الفئة الفلانية من الناس ليس لها شأن بأي واقع موضوعي, هو أمر يعتمد على النجاح التجريبي للنماذج المقدمة من تلك الفئة حول الألهة التي تعبدها. فأنا أنصح كل شخص يشترك في حوارات حول وجود الألهة بتناول هذا التوجه.
وقد يتساءل المؤمن, كيف لنا نحن الفانيين أن نبني نموذجاً للإله الخالق المتعالي والذي يقع خلف نطاق حواسنا؟ والإجابة على ذلك هي: أننا لا نحتاج أن نعرف الواقع المطلق للإله هذا كما لا يحتاج الفيزيائيون أن يعرفوا الواقع المطلق للكوراكات. فالفيزيائيون مرتاحون لأنهم لديهم نموذجاً يتضمن الكواركات حالياً ويتفق بشكل رائع مع جميع البيانات. إن نموذج الكوارك مدعم تجريبياً؛ فهو يمثل أفضل ما كنا قادرين على فعله حتى الأن في وصف أي واقع موضوعي يقع ضمن المشاهدات النووية ودون النووية. إن كان أي من عناصر النماذج العلمية حقيقياً أو لا, فهو لا يغير حقيقة أن لهذه النماذج العلمية منفعة هائلة. وهكذا بإمكاننا القول إن الإكتشاف والدليل الدامغ المطلق على وجود العنصر X لن يكون ذو منفعة أبداً, ولكن إن كان العنصر X ضمن نموذج علمي فلربما سيساعدنا على الوصف والتنبؤ بظواهر معينة وهكذا فسيكون أكثر منفعة ولربما لن تكون لدينا نية أو لن نحتاج للإثبات المطلق لوجوده.
وفي الواقع هكذا هي الحال مع الفيزياء النيوتونية. فعلى الرغم من سوء فهم شائع, لم تصبح نماذج الميكانيك النيوتنية عديمة الجدوى نتيجة لتطورات القرن العشرين في النسبية وميكانيك الكم. فالفيزياء النيوتنية تستمر في إيجاد تطبيقات كبرى في العلم والتقنية المعاصرة. وهي لا تزال ما يدرسه معظم الطلاب في صفوف الفيزياء وما يستخدمه معظم المهندسين وغيرهم حين يطبقون الفيزياء في إختصاصهم. وكل هذا كان على الرغم من أن النموذج النيوتني جزءاً خاصاً من نموذج إينشتاين للنسبية.
فبالمثل, إن تنبأ نموذج إله معين بنجاح نتائج تجريبية لا يمكن تفسيرها بأي طريقة معروفة, فسنكون عقلانيين في الإستنتاج بتردد أن هذا النموذج يصف جانباً ما من الواقع الموضوعي. دون إجبارنا على برهنة أن الإله هو فعلاً كما يوصف في تفاصيل النموذج بشكل مطلق.
من الجهة الأخرى, حين تكذب البيانات بشدة تبؤات نموذج ما أو تخطئه, فعناصر النموذج التي تم إخضاعها للتجارب, يجب أن ترفض لأنه من غير المحتمل أنها تمثل الواقع الموضوعي.
دعنا نطبق إذاً نفس سير التفكير على الإله. فحين نثبت أن نموذجاً معيناً للإله يفشل في الإتفاق مع البيانات, فلن يكون الناس عقلانيين فعلاً بإستخدامهم نموذجا كهذا كتبربر لفعاليتهم الدينية والشخصية. وفي حين يظل ممكناً أن يوجد إله, ولكنه لا يتفق مع النموذج المقدم وربما ليس له أي تأثير على أي شيء, ولا معنى يبقى لعبادته.
منشورات ذات شعبية