شارلي إيبدو – عشر سنوات على مجزرة 2015

المقال التالي هو ترجمة لافتتاحية مجلة شارلي إيبدو في الذكرى السنوية الأولى لمجزرة 2015، وهو بقلم لوران سوريسو الملقب بـ«ريس» Laurent “Riss” Sourisseau، وهو من تولى إدارة النشر في المجلة بعد المجزرة، والتي كان أصيب فيها في كتفه. ولكن ما مناسبة إعادة نشر هذا المقال (مترجمًا) الآن بعد مضي عقد من السنين؟

لقد وجدناه مقالًا ملائمًا يتزامن مع إعادة إطلاق موقعي قناة الملحدين بالعربي، والذي كان قد تعرض لعملية تخريبية في سپتمبر أيلول 2023، فرغم الفرق الشاسع بين ما تعرض له القائمون على شارلي إيبدو وما تعرضنا له فإننا نشترك في الكثير من الأهداف ووسائل التنفيذ وطبيعة التهديد الذي نواجهه. وهذا المقال يحمل في طواياه الكثير مما فكرنا وشعرنا به على مدى سنوات، وبالأخص عند تعرضنا لعمليات إسكات همجية كالتي حدثت العام الماضي.

لكن هذا التوقيت يتصل بشارلي إيبدو بشكل أكثر مباشرة، إذ يتزامن هذا النشر مع مضي 10 سنوات (تقريبًا) على المجزرة. وفي إطار مشروع إعادة تصور موقع القناة، قمنا بإنشاء بوابة مخصصة لتاريخ شارلي إيبدو ومجريات المجزرة وإرهاصاتها لإنجاز هدفين، الأول هو شبه انعدام وجود سرد للأحداث بالعربية بصورة غير منحازة للخطاب الإسلامي. أي نعم قام الكثير من اللادينيون بتغطية ما حدث وتحدثوا عنه، لكن فيما رأينا لم يوجد توثيق مفصل للجريمة وتسلسل الأحداث الذي أدى إليها وتفاصيل أخرى يحجم الإعلاميون العرب عن ذكرها. أما الهدف الثاني فهو أننا في سياق إعادة تصور موقع القناة قمنا بإعادة إطلاق موقع ترجمة «حياة محمد» من إنتاج شارلي إيبدو، والذي كنا قد نشرناه مسلسلًا محققًا على مدى بضعة سنوات.

يقدم المقال الكثير من الأفكار والمشاعر التي تنطبق على مشروعنا ومسيرتنا يقولها ريس هنا بكل صدق وحِدّة عن مشروعهم ومسيرتهم. إليكموه من ترجمة أسامة البني. ملاحظة: المقال الأصلي لا يحتوي صورًا، إنما هذه من إضافتنا.

غلاف العدد 1224 الذي ظهر بتاريخ 6 يناير كانون ثاني 2016 ويحوي افتتاحية ريس. يقول الغلاف: «بعد مرور سنة. لا زال القاتل هاربًا»، والقاتل هنا هو الدين متمثلًا بشخص الإله
غلاف العدد 1224 الذي ظهر بتاريخ 6 يناير كانون ثاني 2016 ويحوي افتتاحية ريس. يقول الغلاف: «بعد مرور سنة. لا زال القاتل هاربًا»، والقاتل هنا هو الدين متمثلًا بشخص الإله

في 7 يناير كانون ثاني 2015، حوالي الساعة 11:35 صباحًا، وقع حدث مميز. شيء لطالما تخيلناه، ولكننا لم نتصور تحققه أبدًا. ففي عام 2006، عندما نشرت شارلي إيبدو الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، لم يتصور أحد جديًا أن الأمر سينتهي ذات يوم بالعنف. لم يكن معقولًا في فرنسا القرن الواحد والعشرين، أن يقتل دينٌ ما صحفيين. كنا نرى في فرنسا ملاذًا للعلمانية، حيث كان من الممكن العبث والرسم والضحك، دون القلق بشأن العقائد أو الأشخاص المجانين. دون القلق بشأن الجبناء والأصدقاء المزيفين الذين كانوا ينظرون إلينا باستعلاء لأننا كنا نسخر من الأديان. كل أولئك الذين يحاضرون علينا بهدف لأجل أن يخفوا جبنهم بشكل أفضل.

والحقيقة هي أنه حتى في ذلك الوقت، كان الكثيرون يأملون أن يأتي شخص ما ذات يوم ويعيدنا إلى حجمنا الصحيح. ونعم، كان الكثيرون يأملون أن نُقتل. أن نُقتل! ومن ضمن هؤلاء متعصبون خدّرهم القرآن إلى درجة الحمق، ولكن كان ثمة حمقى من ديانات أخرى كذلك، تمنوا لنا الجحيم الذي يؤمنون به، لأننا تجرأنا على السخرية من الدين، ناهيك عن مستنقع من المثقفين الساخطين، وكُتّاب الأعمدة التافهين، والصحفيين الغيورين، الذين يتوخون الحذر عندما يخطون على طريق حياتهم المهنية متجنّبين بعناية قول أي شيء صادق. سفينة المجانين والجبناء تلك أرادت موتنا. تمنى المتدينون موتنا لأننا جدّفنا، أما الآخرون فتمنوا موتنا لأن شارلي إيبدو كانت دائما حالة شاذة في المشهد الإعلامي الفرنسي.

إن المبدعين الذين أسسوا شارلي إيبدو؛ كاڤانا Cavanna، شورون Choron، جيبيه Gébé، كابو Cabu، ڤولانسكي Wolinski، ويليم Willem، كلهم كانوا غرباء ولكنهم امتلكوا موهبة باركتها الآلهة، أولئك الذين لم يؤمنوا بإله أصلًا. لا يمكننا أن نخلق ما خلقوا، أو نكتب ما كتبوا، أو نرسم ما رسموا إلا من خلال قول «طز» بكل شيء، بادئين بطز بالإله، وطز بكل ما يأتي من بعده. طز بإرضاء رأي الأغلبية، وإغواء الجماهير البائسة وسحر الخريجين المملّين. طز بكل شيء، على الأقل بقدر ما أمكن ذلك. هكذا كان على شارلي إيبدو أن تكون على مدى سنوات. فقط عبر التفكير بمتعة اجتماعنا معًا في صباح أيام الأربعاء للحديث والمزاح بصدد كل شيء، فكان ذلك دفاعنا الوحيد في مواجهة من أرادوا موتنا.

كثيرًا ما فكرنا في الموت في شارلي إيبدو. وعلى رأس ذلك الموت المالي. عندما تخلت شارلي إيبدو في نسختها الأولى عن روحها في عام 1982 وأعلنت إفلاسها، فكتبت إحدى الصحف اليومية عنوانًا رئيسيًا «مُت يا شارلي!». عندها جاءت كل الصحافة وتبرّزت على شارلي إيبدو. بل إن هذا كان عنوان العدد الأخير، لأنه كان الحقيقة. فتلك المجلة لم تعد تستحق الوجود، ولم تعد تثير اهتمام أحد، ولم تكن قادرة على تجديد نفسها، وما إلى ذلك. كان حفّارو القبور يتدافعون ليكونوا هم من يدقّون مسامير نعش شارلي إيبدو.

كاريكاتور يصور اجتماعات الأربعاء في شارلي إيبدو، وقد وقع الاعتداء في نفس توقيت أحد هذه الاجتماعات
كاريكاتور يصور اجتماعات الأربعاء في شارلي إيبدو، وقد وقع الاعتداء في نفس توقيت أحد هذه الاجتماعات

لقد كان الموت دائمًا جزءًا من هذه الصحيفة. بل إن ظهورها مرة أخرى في عام 1992 بدا وكأنه حدث منُافٍ للطبيعية. فالصحيفة التي تخلت عن روحها قبل عشر سنوات لم يكن لها الحق في العيش مرة أخرى. – تلا ذلك محاكمة بدأها شورون، حيث كان يصرخ قائلًا إن شارلي إيبدو قد ماتت ولن تصدر ثانية ما دام هو على قيد الحياة. ثم تعرضنا لمحن وشدائد لا تعد ولا تحصى على يد كاثوليك متعصبين كانوا يسعون لقتلنا ماليًا. وعلى الرغم من كل مضايقاتهم وعشرات الدعاوى القضائية الغبية بسبب رسوماتنا عن يسوعهم الصغير أو عذرائهم المقدسة، فإننا ظللنا نعوم كالبطة.

عينة بسيطة من انتقاد شارلي إيبدو للمسيحية والإسلام واليهودية
عينة بسيطة من انتقاد شارلي إيبدو للمسيحية والإسلام واليهودية

إن الأعداد الأولى من شارلي إيبدو التي شاركنا فيها، شارب Charb، ولوز Luz، وتينيوس Tignous، وأونوريه Honoré، وبرنارد Bernard، وكابو Cabu، وأنا، كانت مؤلمة، لأننا لم نكن نعرف ما إذا كانت المجلة ستبقى على قيد الحياة لفترة طويلة. وعندما وصلنا بعد عامين من الوجود الهش إلى العدد رقم 100، لم نصدق أعيننا. كنا لا نزال على قيد الحياة. وفي نهاية كل عام، كنا نتعجب من أننا ما زلنا على قيد الحياة.

لقد وضعت نصب عيني دائمًا منذ اليوم الأول لعودة شارلي إيبدو عام 1992 فكرة أن كل شيء يمكن أن يتوقف بين عشية وضحاها، وأن المجلة يمكن أن تختفي بنفس سرعة ظهورها مرة أخرى، في أقل من أسبوع. لم أعتبر أبدًا امتياز التعبير عن نفسي في إحدى المجلات، في ظل هذه الديمقراطية، أمرًا مفروغًا منه. لا شيء مفروغ منه. لقد كانت إدارة المجلات أمرًا بالغ الصعوبة على الدوام، بدءًا من عهد الملك لويس فيليپ الذي كان يسجن الصحافيين ورسامي الكاريكاتير، إلى الجنرال ديغول الذي حظرت رقابته كل من تجرأ على الضحك عليها.

إن الصحفي ليس مالك حرية التعبير، إنما هو فقط خادم لها. في شارلي إيبدو، لم تستخدم حرية التعبير أبدًا لتصفية الحسابات مع أولئك الذين يريدون موتنا. وكان جوابنا الوحيد عليهم دومًا هو الإبداع. كلما كانت الصحيفة أكثر إبداعًا وإضحاكًا، كلما وضعنا أنفسنا على جانب الحياة ودفعنا نحو العدم أولئك الذين يريدون رؤيتنا نموت.

وعلى الرغم من الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الشرطة بعد الحريق المفتعل عام 2011، إلا أن استمتاعنا بطعم الحياة جعلنا ننسى قلق الموت. قبل شهر من 7 يناير كانون الثاني، سألت شارب إذا كان لا يزال للحماية التي يتلقاها أي معنى. فرسومات محمد الكاريكاتورية كانت في طي الماضي، كانت أمرًا قد تعديناه. لكن الدين لا يملك حسًا بمرور الزمن. ولا يحسب بالسنوات ولا بالقرون، لأنه لا يعرف إلا الخلود.

لقد اعتقدنا في شارلي إيبدو أن الوقت قد مضى وأن النسيان قد تكفّل بالباقي. لكن المؤمن، وخاصة المتعصب، لا ينسى أبدًا الإهانة التي تعرض لها إيمانه، لأن الأزلية من ورائه والخلود أمامه. وكان هذا هو ما نسيناه في شارلي إيبدو، فكانت الأبدية قد سقطت علينا سقوط الصاعقة يوم الأربعاء 7 يناير كانون الثاني.

لقد اعتقدنا في شارلي إيبدو أن الوقت قد مضى وأن النسيان قد تكفّل بالباقي. لكن المؤمن، وخاصة المتعصب، لا ينسى أبدًا الإهانة التي تعرض لها إيمانه، لأن الأزلية من ورائه والخلود أمامه. وكان هذا هو ما نسيناه في شارلي إيبدو، فكانت الأبدية قد سقطت علينا سقوط الصاعقة يوم الأربعاء 7 يناير كانون الثاني.

 في صبيحة ذلك اليوم، بعد دوي حوالي ستين طلقة تصم الآذان تم إطلاقها في غضون ثلاث دقائق في غرفة التحرير، اجتاح صمت هائل الغرفة. ولا كلمة ولا صوت. لم يبق شيء سوى رائحة البارود النفاذة. كنت آمل أن أسمع صراخًا، وأنينًا. ولم يكن هنالك سوى الصمت. صمت جعلني أفهم أنهم قد ماتوا. أدركت ذلك وأنا مستلقٍ على الأرض، أحدّق في السقف، حينها أدرت أن شارلي قد مات. هذه المرة مات شارلي حقًا.

سحبت بقدمي الكرسي الذي كان يجلس عليه شارب قبل خمس دقائق، لكي أضع ساقي في وضع مرتفع كما تعلمت في دروس الإسعافات الأولية. كان نيكولينو Nicolino هو الوحيد الذي تأوه في هذا الصمت اللامتناهي، فسمعته وهو يطلب المساعدة بشكل متقطع. وعندما ساعدني رجل الإطفاء أخيرًا على النهوض، وبعد أن اضطررت إلى تجاوز شارب الذي كان مستلقيًا بجانبي، منعت نفسي من الالتفات برأسي نحو الغرفة حتى لا أرى شارلي ميتًا، أردت ألا أرى موت شارلي.
من اليمين إلى اليسار: ريس، شارب، أونوريه، كابو، تينيوس
من اليمين إلى اليسار: ريس، شارب، أونوريه، كابو، تينيوس

بعد 7 يناير، نظر إلينا الكثيرون وكأننا زومبي، نصف أموات ونصف أحياء. لقد أبيد طاقم شارلي، لكنه مع ذلك بقي يتحرك ولو قليلًا. في تلك الفترة الرهيبة التي أعقبت الاعتداء، امتلكت بعض العقول المرهفة الشَّجاعةَ للادعاء أنه نظرًا للوضع المالي للمجلة في عام 2014، كان موت شارلي أمرًا محتومًا على جميع الأحوال. وفقًا لهؤلاء الأوغاد، فإن شارلي إيبدو حتى بدون أحداث 7 يناير لم تكن لتستمر أكثر من بضعة أشهر. ومن منظورهم، كان يوم 7 يناير يوم سعدنا، لأن فرنسا بأكملها بدأت فجأة بقراءة شارلي إيبدو. هل تستطيعون تخيل الأثر الذي يمكن أن تحدثه قراءة مثل هذه الكلمات على أولئك الذين كانوا يحاولون الوقوف على أقدامهم مرة أخرى؟ ومجددًا، كان وجود شارلي أمرًا شاذًا. حتى في هذه اللحظات الكابوسية.

كثيرًا ما نُسأل: «كيف يمكنكم الاستمرار في المجلة بعد كل هذا؟ كيف» إن كل ما مررنا به على مدى الثلاثة والعشرين عامًا الماضية هو ما يبقينا مدفوعين بغضبنا. لم نكن نرغب في التغلب على الأنذال الذين حلموا بزوالنا مثلما نرغب بذلك الآن. ليس بمقدور أرعنَين مقنّعين أن يدمرا عملًا استمر حياة بأسرها، وأن يدمرا كل تلك اللحظات الرائعة التي قضيناها مع أولئك الذين قُتلوا. لن يكونان من سيرى شارلي إيبدو تموت، بل إن شارلي إيبدو هي من رأتهما يموتونان.

كان 2015 هو العام الأكثر فظاعة في تاريخ شارلي إيبدو بأكمله، لأنه فرض أسوأ تعذيب على مجلة لها رأي: إذ وضع قيمنا على المحك. هل ستكون تلك القيم قوية بما يكفي لمنحنا الطاقة للمقاومة والنهوض من جديد؟ إن الجواب بين يديك على هذه الصفحات. يمكن لقيم الملحدين والعلمانيين أن تحرك الجبال أكثر من قدرة إيمان المؤمنين على ذلك.