حرية التعبير. عندما تُضحِكُ شارلي إيبدو الكوكب بأسره

ظهر هذا المقال على موقع شارلي إيبدو بتاريخ 6 يناير كانون ثاني 2025، بمناسبة مرور عقد من الزمن على مجزرة 7 يناير كانون ثاني 2015، وهو بقلم إنّا شڤشنكو Inna Shevchenko ورسم ريس ومن ترجمة أسامة البني (الورّاق)

عنوان المقال الأصلي Liberté d’expression. Quand « Charlie » fait rire la planète، وقد ظهر في العدد 1694 من مجلة شارلي إيبدو

هل صحيح أن القيم التي تدافع عنها شارلي إيبدو، من علمانية، وحق بازدراء الدين، وحرية التعبير والرسم هي قيم فرنسية حصرًا كما يزعم بعض المتفذلكين الغربيين؟ الجواب «لا»، وهو يأتي مدويًا تردده جموع الناشطين المنادين بالديمقراطية في أرجاء العالم؛ أولئك الذين يعتبرون هذه المجلة سببًا للأمل والمثابرة في نضالهم اليومي.

قبل عشر سنوات، حاول إرهابيون إنجاز ما عجز عنه نُقّاد الفكر من يمينيين ويساريين، ألا وهو: إسكات شارلي إيبدو. إن المسلحين الذين اقتحموا مقر المجلة، خلافًا لمن اتهموا المجلة بـ«الاستفزاز غير المبرر» كانوا يفهمون ما على المحك تمامًا. فهم بهمجيتهم أثبتوا أن بمقدور محض نكتة، أو كلمة تقال بتوقيت ملائم، أو رسمًا كاريكاتوريًا إحداث شرخ في أساسات القوى المقدسة.

وللحظة وجيزة، في جميع أنحاء العالم، تم استُلَّت الأقلام كالسيوف لرفع شعار «أنا شارلي». لكن عمر التضامن محدود في المجتمعات المرتاحة. وسرعان ما سيطرت الانتقادات، فصاروا يقولون إن المجلة «مسيئة للغاية»، و«غير مسؤولة»، و«عفا عليها الزمن». ولكنها في الواقع كانت حية أكثر من اللزوم. لأن ما يسميه البعض «حرية التعبير المسؤولة» ليس سوى شكل مخفف من أشكال الرقابة، متنكر في زي فضيلة ليبرالية. وبعد عشر سنوات، يقدم الغرب ديمقراطية معقمة، وثورة بلا مخاطر. ولكن في أماكن أخرى من العالم، تظل قيم شارلي إبدو ــ العلمانية والاستهتار بالمبجَّل ــ أدوات أساسية للمقاومة.

من تركيا إلى سوريا

«لا يمكن المساومة على حرية التعبير، بغض النظر عن السياق»، هو ما أكده يامان أكدنيز Yaman Akdeniz، المؤسس المشارك لجمعية حرية التعبير (föd) في تركيا. وعندما حجبت السلطات التركية موقع شارلي إيبدو بعد الهجوم، رفع أكدنيز ومنظمته القضية إلى المحكمة الأوروپية لحقوق الإنسان، وهي معركة لا تزال مستمرة حتى اليوم. ويقول: «إن إعاقة مصدر واحد لحرية التعبير يحد من جميع المصادر الأخرى.. إن قدرة شارلي إيبدو على الصمود تغذي نضالنا في تركيا، حيث تستمر الرقابة على الإنترنت وقمع وسائل الإعلام.» إن العلمانية والاستهتار بالرموز المقدسة، والتي يصفها النقاد الپاريسيون بأنها «عفا عليها الزمن»، تشكل ضرورة حيوية في أماكن أخرى، وهي حصن ضد الاضطهاد.

وفي العراق، حيث تهيمن الحكم الديني والميليشيات، فإن هذه ليست قيمًا مجردة: إنما هي أدوات للبقاء. يقول عصام شكري، مدير منظمة «العلمانية والحقوق المدنية في العراق»: «نحن نواجه اغتيالات واضطهادًا مستمرًا من قبل الميليشيات الدينية، وخاصة تلك المدعومة من النظام الإيراني.. إن الشجاعة التي أبدتها شارلي إيبدو تذكرنا جميعا هنا بالدور الأساسي الذي تلعبه العلمانية، كما يجسدها النموذج الفرنسي.» في بلد قد تكون تكلفة التشكيك فيه في المقدس رصاصة في الرأس، تثبت تشارلي أن عدم احترام المقدس ليس خيارًا، بل ضرورة.

وفي سوريا، حيث أفسحت الدكتاتورية المجال للأصولية الدينية، تلعب شارلي إيبدو دورًا فريدًا. «بالنسبة للكثيرين منا، تشارلي منفس للغضب: عندما يزعجك شيء ما بشدة ولكنك لا تستطيع التعبير عنه، فهناك تشارلي»، هذا ما يقوله محمد (دون اسم كامل لأسباب أمنية). وهو ناشط قديم مهدد الآن بفِعل قوى إسلامية جديدة، وهو يرى أن شارلي تؤدي وظيفة مزدوجة: «إنها صحيفة لا تستهدف المتعصبين الدينيين فحسب، بل وأيضًا الظالمين، مثل الأسد وپوتين، أولئك المسؤولين عن معاناة السوريين… واليوم، بينما يفرض الإسلام السياسي نفسه، فإن شارلي إيبدو موجودة حيث لا يمكن التعبير عن غضبنا.»

طريقة قوية وغير عنيفة للمقاومة

أما في جنوب آسيا، فقد ساهم الدين في تشكيل أمم قسّمتها «المشاعر المجروحة»، وهو سلاح سياسي بامتياز. ويقول هارش كاپور Harsh Kapoor، الناشط الهندي الذي يرأس موقع «مينستريم ويكلي» Mainstream Weekly الإلكتروني: «لقد دفعت دول جنوب آسيا ثمنًا باهظًا بسبب تسييس الدين، الأمر الذي أدى إلى الاستقطاب والانقسامات والحروب الأهلية». إن صناعة «المشاعر المؤلمة» هذه تمنع الناس من القراءة والنشر والمشاهدة وحتى تناول الطعام بحرية. في پاكستان، يتم سجن أو قتل المنتمين إلى الأقليات بموجب قوانين الازدراء. يقول كاپور: «إن جعل الناس يضحكون، وأن يتعلموا السخرية من قوى السيطرة الاجتماعية لهي وسيلة قوية وغير عنيفة للمقاومة» .

وفي أوروپا، تحول الجدل الدائر حول السخرية إلى ستار من الدخان لتمويه المزيد من الانحدارات الملحوظة. ليس ثمة خطر من السجن بتهمة الازدراء هناك، لكن الرقابة اتخذت منحى أكثر دقة وأكثر مكرًا. ففي پولندا، تدين نينا سانكاري Nina Sankari، الناشطة العلمانية والمؤسِسة المشاركة لمجلة Przeglad Ateistyczny (أي «المجلة الملحدة»)، تأثير الكنيسة الكاثوليكية على المجتمع. «أي انتقاد للكنيسة يدان باعتباره فضيحة، والاستهزاء بالبابا جريمة. وبمجرد وجودها، فإن شارلي إيبدو تدافع عن حقي في رفض العبء الديني هنا، في پولندا، والذي أعتبره ضارًا وغير ضروري. كما أنها تدافع عن حقي الأخلاقي في أن أكون لامبالية، بل وأن انتقد الرموز الدينية التي يعتبرها الآخرون فوق النقد». هناك، كما هو الحال في أماكن أخرى، فإن مجرد فكرة أن الضحك والسخرية يمكن لها أن تكون أفعالًا سياسية هي بحد ذاتها إهانة.

وفي المملكة المتحدة، يشير ستيڤن إيڤانز Stephen Evans، المدير العام للجمعية الوطنية العلمانية National Secular Society، إلى شكل حديث من أشكال الرقابة: «على الرغم من اختفاء القوانين البريطانية ضد التجديف (الازدراء)، فقد ظهرت تعريفات جديدة للرهاب الديني وقوانين جديدة لتحل محلها بحكم الأمر الواقع. ومن خلال التهديد المستمر بالعنف، فإن أولئك الذين يسعون إلى ممارسة السلطة على الآخرين يقدمون الحقوق العالمية كأدوات لاضطهادهم، متظاهرين بأنهم ضحايا بغية إخفاء استبدادهم.»
 
تقول خديجة خان، وهي صحفية بريطانية مهددة بالقتل بتهمة الردة: «لا يزال التجديف (الازدراء) خطيرًا، ليس بسبب القانون، ولكن بسبب الترهيب.. لقد نجح الأصوليون المسلمون في إجبار الليبراليين على الركوع. لم يعد التجديف خرقًا للقانون، ولكن ثمة قانون غير معلن ضد التجديف يلوح فوقنا، لا تفرضه المحاكم، إنما يفرضه الخوف.»

سلاح ضد كل أشكال الاستبداد

وفي هذا السياق، تستنكر مجتمعات المسلمين السابقين في الغرب الصعوبات التي تواجهها في إسماع صوتها. توضح عائشة خان، مديرة مشروع في منظمة المسلمين السابقين في أمريكا الشمالية Ex-Muslims of North America: «نحن نعمل للدفاع عن حقوق أولئك الذين يرتدون عن الإسلام، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب التهديدات أو العزلة أو حتى العنف.. لقد أظهرت لنا شارلي إيبدو أن الفكاهة والسخرية يمكن أن تكونا أسلحة قوية للتغلب على الخوف وتحدي العقيدة. » وفي حين يستنكر البعض عدم مسؤولية المجلة، يستمد منها البعض الآخر إلهامًا حيويًا، وقوة لمواصلة المقاومة خلف الكواليس.

تقول مريم نمازي، المتحدثة باسم مجلس المسلمين السابقين في بريطانيا Council of Ex-Muslims of Britain: «عندما يقال لنا أن بعض الأفكار هي فوق النقد، تذكرنا شارلي إيبدو أنه لا يوجد شيء مقدس سوى كرامة الإنسان». وهذا التذكير ضروري، لأن قبول حقيقة مفادها أن بعض الأفكار لا يمكن المساس بها يعني معاقبة طغيان غير مرئي يتغذى على الصمت. وتصر نمازي على أن «رفض الدفاع عن الحق في الانتقاد يعني ترك المجال مفتوحًا أمام القوى الأكثر عنفًا، أمام أولئك الذين يفرضون عقائدهم من خلال الخوف أو الترهيب أو الموت» .

مضت عشر سنوات على محاولة الرصاص تدمير روح الدعابة الحرة فيها، فإن شارلي إيبدو لا زالت باقية، وهي ليست بقايا. إنها سلاح ضد كل أشكال الاستبداد، وصرخة من أجل الحرية ضد أولئك الذين يدعون أنهم يحكمون بواسطة المقدس. إن الدفاع عن حرية التعبير ليس له تاريخ انتهاء ولا يعرف حدودًا جغرافية. طالما أن القوة تتطلب الخضوع، سيتدفق الحبر، وسترسم الأقلام، وسيظل صدى الضحك الذي لا ينطفئ. في كل مكان.