أجرى المقابلة الغراب الحكيم، وقام أحمد سعد زايد بتصويرها ونشرها على قناته على اليوتيوب على جزئين. تم نشر المقابلة تزامنيًا في مجلة الملحدين العرب في العدد 70.
الجزء الأول:
زايد: أهلًا وسهلًا بحضراتكم. أنا في دبي الآن وجاءني صديقٌ عزيزٌ من مجلة الملحدين العرب يطرح بعض الأسئلة التي ستنزل في المجلة، وسيظهر هذا الحديث تزامنيًّا على قناتي مع نشره في مجلتهم العزيزة، فتفضل يا سيدي بطرح ما تشاء وسأحاول الإجابة كما أستطيع.
غراب: أولًا شكرًا لك على هذه المقابلة. أستاذ أحمد سعد زايد نتشرف أن نتعرف أكثر وعن قربٍ على عملك وعنك وعلى مساهمتك على شبكة الإنترنت، ويسعدنا في مجلة الملحدين العرب دومًا التعرّف والتعريف بشخصياتٍ مهمةٍ في عالم الفكر والحوار. سنبدأ بمجموعة أسئلة.
س1: هلا عرّفتنا أكثر عن نفسك وعن الوسط الذي نشأت فيه؟ صِف لنا بعض جوانب نشأتك الأولى وبعض محطاتها، وتحديدًا هل تلقيت تربيةً إسلاميةً في الصغر، وهل كان للأهل تدخلاتٌ بمسار حياتك أو يومياتك استنادًا على موروثاتٍ دينية؟
أنا نشأت نشأةً مصريةً تقليديةً للطبقة المتوسطة أو فوق المتوسطة بقليل، وكان أهلي ذوي توجهاتٍ ليبرالية، فأحد أبناء عمي الأكبر كان من حزب الوفد. كان صحفيًّا في جريدة «المصري» التي تحولت لاحقًا إلى جريدة «الجمهورية» على يد ثورة 1952، وتم اعتقاله عدة مرات، فكانت الأسرة في مجملها ليبراليةً إلا بيتًا أو اثنين كانا ينتميان لجماعة الإخوان المسلمين. ولا توجد في الأسرة انتماءاتٌ يسارية، أو على الأقل أنا لا أعرف يساريين في العائلة، ولا سلفيين. فالأسرة هي 90% ليبراليين بتديّنٍ عاديّ، تديّن الناس العاديين، وهو تديّن المصريين أو العرب بشكلٍ عامٍّ في ستينات وخمسينات القرن الماضي، حيث يحضرون حفلات أم كلثوم وتلبس المرأة الـ «ميني جوب»، فكانت عندما تأتي للصلاة تلف حول جسدها فوطةً أو شيئًا من هذا القبيل حتى تتمكن من الصلاة بها، وكانت معظم نساء الأسرة هكذا، لدرجة أنني لا أذكر وجود أي امرأةٍ محجبةٍ في أسرتنا بأسرها، لا في الإسكندرية ولا في القاهرة. وبعد ذلك ظهرت ظاهرة الحجاب، فلم يكن هنالك إلا واحدةٌ ترتدي (الإيشارب)، لا أعرف إن كانوا يسمّونه في الشام أو المغرب بتسميةٍ أخرى، وهو كقطعة قماشٍ تُربَط حول الرقبة، فلا تخفي الرقبة ولا أجزاءً أخرى. إلا العجائز، كنّ يرتدين الطُّرَح. ولكن كانت تلك المرأة الوحيدة التي ترتدي ذلك لأن زوجها كان من الإخوان المسلمين. لكنها كانت تلبس القصير، أو بالأحرى ما كان تحت الركبة، مع الحجاب المعهود اليوم مغطيًا حتى كعب رجلها، فكانت العملية بسيطةً.
فنشأتُ في هذا الوسط، ونشأتُ شاكًّا في لاأدريةٍ ساذجة، أسألُ أسئلةً بدائيةً بالفطرة التي فطرتني عليها الطبيعة، فأسأل نفسي وأقول: «لماذا أنا مسلم؟ لماذا أنا مصريّ؟ لماذا أنا عربي؟» هذه كلها صُدف التقاء حيوانٍ منويٍ ببويضة، فينبغي أن أتحرر من هذه الصدفة. فكنت لا أصلي، حتى أن والدي، رغم أنه كان ليبراليًا وأثناء شبابنا أنا وأخي وأختي كان يترك كلًّا منا يتصرف كما يشاء، كلٌّ يفعل ما يشاء، حتى عندما صرت أنا مع الإخوان المسلمين فترةً، وأخي صار كذلك. أخي يعيش حياة شابٍ مصريٍ عادي، وأختي كذلك، لم تكن محجبةً أو شيئًا من هذا القبيل. كان أبي، الله يرحمه، تاركًا لنا حريةً تامة، فكان يأخذنا معه أحيانًا إلى الجامع يوم الجمعة فقط، ويحضّنا على الصيام أحيانًا، ولم أكن أصوم طبعًا ولا أصلي، وأذهب معه إلى المسجد غير متوضئ، وأتفرج على الناس وهي تصلّي، من باب الفضول. وكنت أحبّ صلاة الجمعة بالذات لأن أبي كان يتحدث مع أصدقائه في السياسة والشأن العام. كنت أحب ذلك وأنا طفلٌ صغير، وأحب أن أشترك معهم، حتى أبي كان ينهرني أحيانًا ويقول «اسكت واستمع لأعمامك، لا يصحّ أن تتكلم.»
لكن بعض أصدقائه كانوا ينهونه عن ذلك، فيقولون: «نحب أن نسمعه، دعه يتكلم»، فنذهب أحيانًا إلى أماكن في الإسكندرية مثل «البن البرازيلي» أو مقهى بعد الصلاة حيث يحدث هذا الحوار. حتى قررت، بكامل قواي العقلية وبإرادتي ونتيجة تطوراتٍ فكريةٍ في المجتمع المصري والعربي، الانتماء لحركة الإسلام السياسي، وتحديدًا الإخوان المسلمين، حيث ذهبت إليهم وكانت قصةً.
حيث شكّوا بسبب أنني جئت أطلب الانضمام للإخوان المسلمين، في حين أنهم هم من يختارون الناس بهدف الانضمام، فيبدأون بمصادقتك، وذهابهم معك لأماكن، كاحتساء القهوة، بأخذك للصلاة، بوعظك، لكنه لن يقول لك «انضمّ للإخوان» أبدًا. فهي دعوةٌ غير مفتوحةٍ للناس، كالدعوة للحركات الماسونية، والماسونية ليست مسبةً لهم، لكنها حركةٌ تنتقي أعضاءها وليس بملء استمارة. فلا تنضم كما تنضم إلى نادٍ رياضيٍّ أو حزبٍ سياسي، لا، وإنما توضَع تحت الاختبار وتُرشّح من أعضاء داخل التنظيم حتى تنضم للتنظيم.
غراب: ذكرت جانبًا مهمًا وهو تحولك من اللاأدرية.
زايد: اللاأدرية الساذجة لو سمحت، لأنني كنت بسيطًا، بالكاد كنت قد قرأت لنجيب محفوظ ومصطفى محمود وأنيس منصور والعقاد، أيْ الكتابات الشائعة والموجودة في أوائل الثمانينات. وفي أواخر الثمانينات كنت قد اندمجت مع الإخوان وأصبحت رئيسًا لاتحاد طلاب، فكانت هذه مرحلة تحوُّل.
غراب: تحول غريب…
زايد: وجهة نظري في هذه التحولات أن لكل مرحلةٍ تحولاتها. فهنالك تحولاتٌ من الأديان التعددية إلى الأديان التوحيدية إلى التفريد الربوبي إلى الكنيسة والإسلام وأديان العصر الوسيط إلى فكرة العلمانية، وعصر اللادينية والدين الطبيعي، وعصر الإلحاد، فكل هذه هي مراحل تمرّ فيها الجماعات البشرية.
س2: أكيد، ولكن هل هذا التحول تحديدًا إلى جماعة الإخوان المسلمين، هل كان هناك دافعٌ سياسيٌّ أو فكريّ، أو لنقُل هل كانت هناك حاجةٌ نفسية، أو أفكارٌ جاذبةٌ لديهم أدت إلى اختيارك هذا الطريق، فلماذا لم يكن طريقًا آخر غير الإخوان المسلمين؟
زايد: أولًا، في الفترة التي كنت فيها طالبًا في الجامعة في أواخر الثمانينات كان اليسار قد مات، لا يوجد يسارٌ تقريبًا، إلا بعض الرموز القليلة غير الفاعلة في الشارع، وكان لا يوجد في الجامعة سوى تيار الإسلام السياسي والحزب الوطني، وهو جماعة الحزب الحاكم ومبارك.
غراب: فكان نوعًا من التمرد…
زايد: كان نوعًا من التمرد ورغبةً في فعل شيء، فلم أكن راضيًا عن النظام السياسي، سواءٌ أكان السادات أو عبد الناصر، حيث عانى عمي وأهلي من نظام عبد الناصر، والسادات انتهى نهايةً مأساويةً على يد الإسلاميين الذين تحالف معهم قليلًا ثم انقلبوا عليه ثم قُتل عندنا في مصر، ثم في النهاية مبارك والفساد والإشكالات التي كانت موجودةً، فقررت أن أنتمي لحركةٍ معارضةٍ تنتمي لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية العظيم من وجهة نظري. وفي إطار لاأدريةٍ ساذجةٍ أو لاأدريةٍ غير ساذجة، كنت أحاول في كل المراحل أن أكون عقلانيًا؛ أحاول أن أكون سلميًا، ففكرة العنف لم تكن مطروحةً عندي في أي فترةٍ من فترات حياتي، وأنا ضدها سواءٌ أكان العنف من جماعاتٍ دينيةٍ أو حتى جماعاتٍ إلحاديةٍ أو لادينية. فالعنف مرفوضٌ مطلقًا وكذلك الحض أو التحريض عليه.
س3: هذه كانت أسباب انضمامك لجماعة الإخوان المسلمين والانخراط فيها، ولكن بعد فترةٍ تركتَ جماعة الإخوان المسلمين، وتطور هذا التحول إلى خارج هذه الجماعة. فما هي الأسباب التي أدت إلى هجرك للإخوان المسلمين تدريجيًا؟ وهل تأثرت بأي جماعةٍ سياسيةٍ أخرى بعد ذلك؟
زايد: لا، أنا بعد تجربة الإخوان المسلمين والانتماء للحزب السياسي وإشكالاته، وقد كان حزبًا شبه سياسيٍّ وليس رسميًا، فقد قررت ألّا أنتمي لأي جماعة، وبقيت منتميًا للتيار الحضاري الإسلامي، إسلام طه جابر العلواني، المفكر العراقي، أو جمال عطية، المصري، أو عبد الحليم أبو شقة صاحب كتاب «تحرير المرأة في عصر الرسالة»، والذي يتكلم عن كيف أن وضعية المرأة المسلمة الآن أسوأ من وضعيتها أيام الرسول الكريم، أو صدر الإسلام. وكلام أستاذنا عبد الحليم أبو شقة صحيح، فلعل المرأة كانت قُبيْل الإسلام أحسن حالًا بُعيْد الإسلام، من حيث الحقوق والواجبات، فالإسلام أعطاها مكتسباتٍ وأخذ منها مكتسبات. أعطاها مثلًا جزءًا من الميراث، أعطاها أشياءَ وأخذ منها أشياءَ. ولكن بعد ذلك عندما “تتَرّك” الإسلام، أي ساد فيه العنصر التركي، أصبحت المرأة تأخذ الفُتات، سواءٌ على مستوى الحقوق المادية أو الحقوق المعنوية، وفي هذا الواقع لا يمكن أن تجد امرأةً متعلمةً. فانتميت إلى هذا التيار، الذي يمكن أن نسميه إسلامًا عقلانيًا، أو إسلامًا معتزليًا جديدًا، ثم لاحقًا تبينت أن هذا التيار ليس فيه العقلانية الكاملة المنشودة التي أنا (أبغاها) وتحولت عنه منذ 2004، وأصبحت منتميًا أكثر للدين الإنساني، ولست ضد أي دين، فاعبد حجرًا ولكن (لا تُلْقِنِ) به، والمهم هو النقطتان الأساسيتان في أفكاري الحالية أن هذا الدين لا يحض على العنف ولا يمارس العنف، وكل الناس خيرٌ وبركة، سواء أكنت هندوسيًا أو مسلمًا، أو شيعيًا أو سنيًّا، أو ’’بلاءً أزرق‘‘، أو أيًا ما كنت فأنت حرٌ ما لم تضر، أنت حرٌ طالما هذه العقائد شخصيةٌ لك، أو ممكنٌ بأسرتك، لكن لا تحاول أن تفرضها على المجتمع، لا تحاول أن تفرضها عليّ، ولا تحاول أن تكفرني. أنا لا توجد عندي مشكلةٌ نظريةٌ في التكفير، هنالك من يقول إن التكفير خطأ. فتبعات التكفير هي المشكلة، أما رأيك فأنت حرٌّ به. إن كنت تراني كافرًا أو هندوسيًّا، حتى لو لم أكن هندوسيًّا وكانت تلك تهمةً باطلةً ظالمةً، لكن أنا لا أبالي، فطالما لن يترتب على هذا فعلٌ ينتقص حقًا من حقوقي، أو تسبب لي إهانةً أو تتطاول عليّ (فخلاص) أنت تراني مثلًا غير مضبوطٍ أو مضبوطًا، فهذا لا يفرق معي.
أريد فقط أن أقول نقطةً بالنسبة لفكرة الإخوان، فقد كان جزءًا أساسيًا من فكرهم أن لعبوا على ظلم الأنظمة العسكرية، وهذا موجود؛ هذه حقيقة، ولهم حقٌّ في ذلك، وفي رفعهم فكرة الاضطهاد.
غراب: المظلومية…
زايد: المظلومية الشديدة ليست لهم كجماعةٍ خاصةٍ تم ظلمها أيام عبد الناصر في الحالة الإخوانية، وأيضًا المظلومية للأمة العربية كلها من المؤامرات اليسارية واليمينية، يعني المعسكرين اللذين كانا موجودين في وقتها في الثمانينات (إذ لم يكن الاتحاد السوڤيتي قد سقط حينها)، أي المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، فكانوا يستحضرون أشياءَ من المظلوميات، كمساجد هدّمت أيام لينين وستالين، وشيوخٍ أُعدموا وأشياءَ من هذا القبيل، وتأتي قصة أفغانستان، وكان هذا في ضميرنا جميعًا أن الروس يقتلون المسلمين، والإسلام في أفغانستان، ودور الشيوعيين كذا والتحالف الأمريكي كذا. لكن كل الشعوب تخطط، ففكرة المؤامرة بالنسبة لي اليوم ليست كما هي، كما كانت في عقلي في الثمانينات، فالعقل العربي لأنه عقلٌ مهزوم، وعقلٌ ينتمي إلى حضارةٍ عربيةٍ إسلامية، كانت في وقتٍ من الأوقات فيها صفحاتٌ بيضاء وصفحاتٌ سوداء ولكن أصبحت اليوم محتَضَرةً أو ميتةً. فأنا أقول إن هنالك روايتين، على طريقة المحدّثين؛ هل الحضارة الإسلامية ماتت أم هي في حالة احتضارٍ شديد، ونحن ننتظر مولودًا جديدًا، هذا المولود هو ’’حضارةٌ إسلامية2ٌ‘‘ أو حضارةٌ شرقيةٌ أو حضارةٌ عربيةٌ أو حضارةٌ علمانيةٌ أو حضارةٌ بالمهلّبية، المهم ستتطور. لكن حدث انقطاعٌ أكيد لا شك فيه ولا جدال معه، فكانت هذه الأشياء كلها عناصر تحمّس شابًا صغيرًا دون العشرين في الانتماء، يحلم، كما حلم ماركس من قبل بتغيير العالم. كنتُ أحلم بتغيير العالم، وما زلت، لكن الحلم الآن أصبح خفيفًا بعض الشيء. كنا نحس بالأمر، كنا منتمين ونعمل، كنت أذهب وأخطب في اتحاد الطلبة ونقوم بنشاطات، ونحس بأننا نغير الكون، وليس الإسكندرية التي أنتمي إليها فقط ولا مصر ولا العالم العربي، بل كنا سنغير العالم. وكانت أفكار الإخوان، فكرة أستاذية العالم، أننا نقود العالم إلى الجنة في الآخرة، وفي الدنيا إلى السعادة والرخاء والرفاه؛ أفكارًا ورديةً طبعًا ليس لها أساسٌ للأسف الشديد في الحقيقة، وددتُ أن تكون حقيقيةً لكنها للأسف أفكارٌ زائفة، خصوصًا عندما تقرأ التاريخ الإسلامي بعينٍ فاحصة، ولا أقول بعين المستشرقين أو حتى مفكرٍ علماني، ولكن بعين المؤرخين المسلمين القدماء مثل الطبري أو ابن الأثير أو ابن كثير، وكل هؤلاء، فتحكي القصة كلها ولا يأخذ لك صفحات، فهذه لعبةٌ يفعلها باغضو الحضارة العربية الإسلامية ومحبيها: يأخذ الصفحات التي تناسبه: تريد صفحاتٍ سوداء، فأقول لك أنهم لم يكونوا بشرًا بل شياطين، وهم لم يكونوا شياطين.
أو آخذ صفحاتٍ أخرى وأجعلهم ملائكةً وهم كانوا بشرًا مثلنا لهم عيوبٌ كثيرةٌ ولهم مزايا، وهكذا كل الحضارات الإنسانية.
غراب: عظيم. هذا عن دخولك ولكن كيف تم الخروج من فكر الإخوان؟
زايد: الخروج من فكر الإخوان تم سريعًا وأقول بإيجاز: فقد خرجت من الإخوان وأصبحت مسلمًا عقلانيًا مثل الأستاذ جمال البنا أو الأستاذ عدنان إبراهيم أو الأستاذ محمد أركون.
أحاول أن أبحث عن إسلامٍ أكثر عقلانيةً، وعن تفسيرٍ للنصوص أكثر توافقًا مع القيم الإنسانية، فكان هذا ديدني.
كانت مشكلة الإخوان أنهم بسطاءُ في مسألة القراءة والاطلاع. قليلو الاطلاع، قليلو القراءة، فكنت أقول لهم لا بد لكم أن تقيموا مدارس ثقافيةً وصالونات.
أنا أقيم صالوناتٍ أكثر من عشرين سنة، صالوناتٍ علمانيةً وإسلاميةً وأنواعًا مختلفة.
الصالونات كانت في بيت والدي في ’’وسط البلد‘‘ في الإسكندرية إلى جانب مسجد القائد إبراهيم، فكنا نمارس هناك الحوار والثقافة، وأستضيف أكثر مما أكون متحدثًا، فكنت مديرًا لهذا الصالون، أدعو مفكرين كبارًا مثل الأستاذ فرج فودة، وفؤاد زكريا، ومحمود شاكر، وهو إسلاميٌّ لكنه متحررٌ من تنظيمات الإسلام السياسي، والشيخ الغزالي، والدكتور طه جابر العلواني، وأستاذنا الكبير الذي ما زلت أحبه حتى الآن، الله يرحمه، فقد مات منذ أكثر من عشرين سنةً الأستاذ عبد الحليم محمد أحمد أبو شقة الذي كلّمتك عنه وهو صاحب قصة المرأة المسلمة وكيف كانت أكثر تحررًا في صدر الإسلام منها في القرن العشرين وهذا نأسف له أشد الأسف.
س4: لا شك أن رحلتك لم تكن محدودةً في مصر، لأنك خرجت لأوروپا وزرت العالم عمليًّا، وهذا الكنز من الخبرات حول العالم أثّر بلا شكٍّ في مكتسباتك وأفكارك. هل يمكن أن تصف لنا بشكلٍ سريعٍ خريطة تحولك الفكري، أو هل تستطيع وضع تسميات؟ فقد ذكرت أنك تقول عن نفسك لادينيًّا متحررًا عقلانيًّا إنسانيًّا تنتمي للدين الإنساني، هل تستطيع وصف خريطة تطورك الفكري؟
أصف نفسي أنني على دين الإنسانية، على دين عصر الأنوار، على الدين الطبيعي الجميل، دين الحب كما يقول محي الدين بن عربي: «أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه، فالحب ديني وإيماني». فالقصة المتعلقة بسفري للخارج أثرت بالتأكيد فيَّ تأثيرًا كبيرًا. أولًا درست علومًا أخرى، فقبل ذلك درست علومًا شرعيةً، وأحببت ألا أكون مثل معظم الإسلاميين وأن أدرس الإسلام على أصوله، وأن أدرس الإسلام بكافة أبوابه، ليس ببابٍ واحد، كما يفعل السلفيون أو الصوفيون أو الشيعة: يقرأ شيئًا من الإسلام وتغيب عنه أشياءُ، فحاولت أن أبقى (فلحوس) كما نقولها في اللهجة المصرية أو يعني “شاطر”، ولعلّي كنت بلغت شيئًا من هذا. بذلت مجهودًا في قراءة الفلسفة الإسلامية حتى الأمور غير المعروفة، ليس فقط الشيعة والسنة، وبقي لدي طرفٌ في العلم من كل مجالٍ وأخذت إجازةً في الحديث الشريف، فدرست أيضًا الحديث النبوي ودرست في الأزهر حيث أخذت دبلومًا منه، فدرست دراسةً أكاديميةً ودراسةً تقليديةً حتى أعي هذا الأمر. فهذا أفادني، لكن عندما ذهبت إلى الغرب، وتحديدًا بريطانيا، حاولت أن أدرس أيضًا علومهم فبدأت بدراسة الدراما والفلسفة، كمحاولةٍ للرد على الأسئلة والتناقضات الموجودة في الفكر الديني، فكانت الفلسفة تزيد التناقضات تناقضاتٍ ولا تقللها، حتى وصلت في العام 2006/2005 إلى تبلورٍ تامٍّ لأكون شخصًا متحررًا كثيرًا، وأجد هنالك إشكالًا كبيرًا في النصوص الدينية فأرى أنها تحتاج تأويلًا عقلانيًّا، ووجدت أن هذا ليس من مهمتي وصعبٌ جدًا، ولكن أشجع عليه حتى هذا اليوم وهذه اللحظة؛ أشجع كل إنسانٍ أن يحاول أن يعطينا دينًا أكثر إنسانيةً، في أي دين، سواءٌ الإسلام أو المسيحية أو أي دينٍ آخر، دينٌ أكثر إنسانيةً، فأنا أرفع له القبعة حتى لو كنت غير مؤمنٍ بهذا الدين الذي ينتمي إليه هذا الشخص، لكني أشجعه على أن يكون أكثر إنسانيةً وأكثر آدميةً من الصور البغيضة للدين وكل دينٍ له صورته البغيضة شرقًا وغربًا.
النقطة الأخيرة، لما ذهبت للغرب، كما يقول الإمام الشافعي: «سافر ففي الأسفار سبع فوائد، منها صحبة ماجد».(1)
واطلاعٌ على الناس، نرى ثقافاتٍ مختلفةً، وأيضًا تضع أسئلةً: هل كل هؤلاء سيدخلون النار وأنتم ستدخلون الجنة يا (أولاد الّذين)؟ فكنت أقول: كيف؟ ما ذنب هؤلاء أنهم نشأوا في ثقافةٍ أخرى وأنا لعلّي، أو أنت لعلّك، لو نشأت في أسرةٍ مسيحيةٍ أو شيعيةٍ أو درزيةٍ ستكون كما عوّدك أبوك كما يقول أبو العلاء المعري: إنما ينشأ فتى الصبيان منا على ما عوده أبوه(2)، أو أمه، لكيلا تغضب منا النسويات.
القصة كلها ستكون بنت الصدفة، و %99,9 من أهل الأرض يموتون على دين الأب، إلا الذي يتحول من مسلمٍ لمسيحيٍ أو من مسيحيٍ لمسلمٍ أو من مسلمٍ لهندوسيٍ أو من هندوسيٍ لبوذي، أو حتى إلى ملحد، هذا أقل القليل ولعل أكثر التحولات في القرن العشرين هي التحولات إلى اللادينية بأشكالها المختلفة سواءً أكانت الربوبية أو اللاأدرية أو اللااكتراثية أو الإلحاد الصرف. وكل هذه التحولات أكثر المعتقدات انتشارًا.
ألّفت سلسلةً في قناتي اسمها «الإلحاد والإيمان»، سلسلةٌ من 7/8 محاضراتٍ نتكلم فيها عن هذه التيارات جميعًا، عن الملحدين بأنواعهم واللاأدريين بأنواعهم واللااكتراثيين والربوبين والدينيين أيضًا وأحاول أن أكتشف هذا العالم وموقف الناس من إله أو آلهة السماء وتأويلاتهم لها أو قراءاتهم لها.
فكانت التجربة الأوروپية في حياتي جزءًا مهمًا جدًا وليست أوروپا فقط أو الغرب فقط، فقد وجدت الكثير من الناس هناك، وأذكر فتاةً هنديةً كنت أجلس معها، أذكر هذا في أواخر التسعينات وكنت أتكلم معها وأدعوها للإسلام وأقول لها: «لماذا تعبدون البقر؟»،
فردت علي: «لماذا أنتم تعبدون الكعبة؟
نحن نتبرك بها ولا نعبدها مثلما أنتم تسجدون للكعبة ولا تعبدونها»،
فقلت لها: «دعينا نتعشى ونتمشى ونترك هذا الحوار الميتافيزيقي».
من هنا وُلدَت في ذهني العبارة الشهيرة التي أرددها كثيرا في محاضراتي: «يا صديقي دينك هو أسطورة الآخر ودين الآخر هو أسطورتك».
فمثلًا، لو رأيت الهندوسي يفعل طقوسه تضحك وتقول: «ما هذا الغباء؟»
وهو إذا رأى المسلم يخلع سرواله الداخلي ويضع فوطةً حول خصره ويجري حول حجرٍ يقبّله وحجرٍ يلقيه بالحجر فسيقول: «أصحاب العقول في راحة، الحمد لله على نعمة الهندوسية»،
وكذلك أيضًا المسيحية، ولما ترى اليهود يهزون برؤوسهم تقول «ما هذا الغباء؟»،
أو يراك تضع مؤخرتك بإزاء السماء في السجود، أيضًا يندهش، فكما يقول الشوام: «كل واحد ربنا يعينه على دينه»، أي كل واحدٍ ربنا يقويه، لكن المهم ألّا نسخر من بعضٍ ونتعايش تعايشًا سلميًا سواءٌ أكنا دينيين أو لادينيين.
س5: جميلٌ جدًا. لقد ذكرت موضوع الصالونات وأنك تدير صالوناتٍ واجتماعاتٍ ثقافيةً كثيرةً.
بنيويًا، الحوارات في الصالونات والمقابلات الاجتماعية، ما هي محاسنها وقوتها في التأثير بالناس والتأثير بالمجتمع؟
زايد: الآثار كبيرة. والذي ساعدنا أكثر من هذه الصالونات والمحاضرات أيضًا هي مواقع التواصل الاجتماعي كاليوتيوب بالنسبة لي شخصيًّا، اليوتيوب أولًا وثانيًا وثالثًا، ثم الصالونات الفعلية والاتصال المباشر بالناس مهمٌّ جدًا حتى لا نكون نتكلم كالكِتاب، وهو الفاصل بينك وبين الشخص فأنت لا تجلس مع المؤلف وأيضًا الڤيديو أو status الفيسبوك فيها تفاعلٌ لعله أكثر من الكتاب إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي والصالونات هي التي تسببت في التواصل مع الناس ورؤية التطور الفكري للشبان والفتيات عن قرب.
فمثلًا في اليوتيوب أرى الناس تسب وتشتم أحيانًا وتمدح وتجعلني عظيمًا أو دون ذلك، أو شيطانًا أحيانًا، لكن كل هذا جميل. هذا التفاعل ما لم يكن فيه سبٌ أو عنفٌ فهو أيضًا تفاعلٌ جميلٌ، وأنا أذكر لمّا خرجتُ من الإخوان المسلمين وتركتهم بسبب عملي في الصالونات الثقافية وكان يحضر فيها الإسلاميون وغير الإسلاميين كانت هذه الصالونات الثقافية لها مردودها الجيد لكن البسيط جدًا بالمقارنة بهذه الصالونات الثقافية بعد ما بدأت أنشرها وهي بالصدفة المحضة، بعد ثورة 25 يناير عملت قناةً على اليوتيوب ونشرت هذه المحاضرات التي ألقيها والصالونات ولدي عشرات المحاضرات التي ضاعت وبعضها كنت أمثّل فيها حالةً فكريةً مغايرةً.
فلدي في اليوتيوب الآن كل محاضراتي وأنا في لحظةٍ فكريةٍ محددة، أما الأجزاء الماضية فكانت فيها أشياءُ كنت مختلفًا فيها فكريًا وكنت أحب أن تكون موجودةً لترى الناس تطوري الفكري، لأن من خلال الصالونات لا ألقن، نحن لسنا في جامعة، ولسنا في مسجدٍ أو في كنيسةٍ حتى أبشّرك وأقول لك يا صديقي فلان ويا فلانة افعلي هذا فهو جميلٌ وحسنٌ ولا تفعلي هذا فهو قبيحٌ وسيء، ولكن أحاول أن أعرض الأفكار، أفكار بني الإنسان جميعًا، وطبعًا لدي وجهة نظرٍ شخصيةٍ لكن أحاول أن أخفيها قدر المستطاع وقد تبدو مني في بعض الكلام لكن أحاول أن أخفيها حتى يصل الشخص الذي أمامي إلى نفس الحالة التي مررتُ بها ولا أدفعه.
وتعجبني حكمةٌ صوفيةٌ جميلةٌ جدًا تقول: «ابدأ مع الناس من حيث بدأت لا من حيث انتهيت».
يعني لا ينفع أن أبدأ مع شخص، كبيرًا كان أو صغيرًا، من قناعاتٍ طورتها في عشر سنواتٍ وأنا أراك في مرحلتي قبل عشر سنواتٍ وأنقل لك قناعاتي اليوم. فهو له حقٌ أن يمر بنفس المراحل فقد يوجد بعض الناس أسرع من ناس، فبعضهم يأخذ المرحلة التي أخذتُها في خمس سنين يأخذها في سنة، وآخر يأخذها في عشر سنين وآخر يموت ولا ينهيها. الإنسان حُرّ، أنا مؤمنٌ بالحرية الإنسانية إيمانًا تامًا.
س6: بالنسبة لمحاضراتك والصالونات والاختلاف بين المحاضرة الواقعية أمامك والرقمية على اليوتيوب أو وسائل التواصل الاجتماعي. حدثنا قليلًا عن تحضيرك للمحاضرة، كيف تنتقي المواضيع؟ ماذا تفعل بغية التحضير؟ وهل هناك هيكليةٌ للمحاضرة أو اجتماع الصالون، وهل تضع أهدافًا مسبقةً أم تترك الموضوع حرًا؟ حدثنا عن البنية.
زايد: أولًا، في عمري لم أعمل محاضراتٍ رقميةً فقط حتى هذه اللحظة، حتى عندما أسجل الڤيديو أنادي بعض أصدقائي يجلسون على الكاميرا، تمامًا كحضرتك وأتكلم معهم بحيث يكون في الكلام حيًا، فلا أجلس أمام الكاميرا وأقول لهم كذا وكذا. وقد بدأت أصلًا بالمحاضرات الطبيعية فأنا لست يوتيوبر YouTuber بالمعنى التقليدي كآخرين، والذين هم أصدقاءٌ أفاضل، لكن أنا محاضرٌ في قاعاتٍ وتواصلٍ إنسانيٍ مع أناسٍ من لحمٍ ودمٍ مثلنا، فهؤلاء الناس نتكلم معهم وأحاول أن أقسم الوقت مناصفةً بيني وبينهم، فلو الجلسة ساعتان أنا أتكلم ساعةً، وهم ساعةً يتكلمون، إن شاءوا طبعًا، فلا أدفعهم للكلام دفعًا، ويحصل هذا الحوار، وبدأت أسجل هذه الحالة فأصبحت المحاضرات كأنها حيةٌ ورقميةٌ في ذات الوقت.
وحتى الآن أفكر مع أصدقائي باقتراح محاضراتٍ مباشرةٍ على اليوتيوب فقط وتبقى (لايف) فيكون فيها أيضًا هذه الحيوية التي توجد عندما تنظر في عيون الناس من حولك وتسمع أحيانًا بعض المقاطعات اللطيفة أو حتى السخيفة، فهذا شيءٌ ظريف.
أما عن تحضير المحاضرات فعادةً أختار موضوعًا، أحاول أن أرد على الأسئلة وأحاول أن أترك أسئلةً، فأغلب المحاضرات الناجحة التي تجعلك يا صديقي، بعد جلوسك عندي هنا وأنت خارجٌ تسير في الشارع وأنت ذاهبٌ لمنزلك أو لعملك، تجعلك تتساءل وتقول (أحمد قال كذا وكذا… طيب يا ترى كذا…)، أو تُراجع من بعدي المعلومات، مثلًا من ضمن ما قلتُ قبل قليلٍ أن «أكثر الأشياء انتشارًا هي اللادينية»، فتُراجع إحصائيات مؤسسة غالوپ الأمريكية لتتأكد، ربما كنت «أسرح بك» (أكذب)، ويمكن أقول (أي كلام)، فالناس ترى الكلام، وتدققه وتحققه، فيخلق ذلك لديك حالةً من الوعي أو التفكير النقدي التي تتطور مع الوقت، لتصبح أنت تفكر مثلي. فلا تجعل لك شيخًا، لا شيخًا في الإلحاد ولا شيخًا في الإيمان، ولا شيخًا في أي شيءٍ آخر. أنت إنسانٌ حر، قد تتلمذ على يد شخصٍ أعلم منك، لا بأس في ذلك، لكن ألّا تكون بين يديه كالميت بين يدي مُغسِّله، لا بد أن تكون حرًّا، والشيخ المحترم، أو الأستاذ المحترم هو الذي يبذر في تلاميذه أو طلّابه أو أصدقائه أو أصحابه هذه الروح النقدية المفكرة المجادلة في إطارٍ من الأدب والأخلاق، لأن بعض التلاميذ يكونون قليلي الأدب أحيانًا! [ضحك]. فتحضير المحاضرة يحوي عناصر، وأنا عادةً أحب الارتجال، فأنا أحضّر عناصر ومعلوماتٍ موثقةً، خمس أو ست نقاطٍ مثلًا، فنصف المحاضرة معلوماتٌ محضّرةٌ بعنايةٍ ونصفها الآخر ارتجاليٌّ وانفعاليٌّ وحواري.
س7: لديك نظرةٌ توافقيةٌ تتقبل الآخر وتُشجّعه، ولديك أيضًا تاريخٌ من التفاعل والحوار مع شخصياتٍ عديدةٍ متنوعة الأفكار والثقافات مثل حامد عبد الصمد ومحمد المسيّح، وهذه المقابلات تؤدي لردود أفعالٍ متباينةٍ من الجمهور…
زايد مقاطعًا: حتى عدنان إبراهيم قابلته وغيره أشخاصًا آخرين، وقابلت الشيخ الفزازي في المغرب، وهو شيخٌ سلفيّ، وأجريت معه حوارًا على قناتي، وستجد هذه الحوارات موجودة.
غراب يستكمل السؤال: أنت توافقيّ، تريد التعايش مع الجميع، ولكن الاختلاف الشديد بين وجهات النظر هذه يؤدي إلى ردود أفعالٍ سلبيةٍ وإيجابية. ما الطرق التي تراها فعالة…
زايد: حتى لأنني أجريت حوارًا معكم، سيقولون عني أمورًا معينةً…
غراب: حوارٌ مع مجلة الملحدين العرب والعياذ بالله [ضحك] بالتأكيد سوف تترك الكثير من الناس يهاجمونك حتى شخصيًا، فبرأيك كيف نواجه هذه الحالة من الانشقاق أو معاداة الآخر؟ كيف نصل الى توافقٍ أفضل رغم اختلافنا الشديد؟
أنا لا أنادي بالتوافق الفكري، بالعكس، الاختلاف الفكري جميل. حتى عندما قابلت الدكتور عدنان إبراهيم أو حامد عبد الصمد أو غيرهما، كذكرٍ للطرفين، وحتى الشيخ الفزازي فنحن بحاجةٍ لألوف… أو ربما دعك من الشيخ الفزازي، فالسلفيون كثرٌ لا نريد المزيد من السلفيين والإسلام السياسي، لكن حالة عدنان إبراهيم، أو جمال البنا، الله يرحمه أو أركون، أو المهندس السوري محمد شحرور في الإمارات، رغم أنني لا أتفق مع أفكاره، فنحتاج لآلافٍ من أمثالهم لعمل حراكٍ فكري.
أيضًا بحاجة لألوفٍ من أمثال حامد عبد الصمد والمسيّح أو غيرهم، محتاجين آلافًا ليحدث نوعًا من التفكير والحوار في الشارع العربي، فأنا مع الاختلاف لكن مع التوافق والتعايش الإنساني.
فأنا لدي أفكارٌ وأرى أنها صوابٌ وأنها صحيحة، ومن حقي أن أدعو الناس إليها بالطريقة التي تناسبني، سواءٌ بطريقة التبشير الديني أو بنشر الأفكار بطريقةٍ ناعمةٍ أو بطريقةٍ تعليميةٍ حواريةٍ مع المتلقي أو الذي يستمع إليَّ، فلدي مطلق الحرية في ذلك، ولمن يستمع إليَّ مطلق الحرية في القبول والرفض أيضًا، فينبغي علينا كعربٍ أو كمتحدثين باللغة العربية، حتى نشمل إخواننا الأكراد والأمازيغ وغيرهم من الذين لا يحبون أن يلقبوا بالعرب، المستعربين لسانًا، أن يتعلموا كيف يتعايشون وكيف ينبذون العنف وكيف يستطيعون أن يديروا الحوار دون أن ينتهي بالسب أو بالأحذية، والذي لا يزال أرحم من أن ينتهي بالرصاص أو القنابل، وهذا طبعًا بشع. هذا هو التوافق أو التعايش الذي أنادي به، أما الاختلاف الفكري فهو أساسيّ، وأنادي بالألوف من كل التيارات ومن أصدقائنا في القنوات ممن يُصنَّفون كيوتيوبر YouTuber فقط، أو يوتيوبر ومحاضرٍ أو محاضرٍ فقط، كل هؤلاء أرجو لهم جميعًا التوفيق طالما هم يؤمنون بالإنسان، ويؤمنون بالحقوق الأساسية للإنسان، ويؤمنون باللاعنف أو ممارسة العنف وعدم سفك الدماء، فكل أولئك «على العين والرأس».
س8: يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه «من تاريخ الإلحاد في الإسلام»، أن الإلحاد بين المسلمين لم يكن أبدًا رفضًا للإله وإنما التركيز على جوانب النبوة والقرآن، ما رأيك في مدى دقة هذا الوصف بالنسبة للملحدين؟ هل الملحدون حقًا ملحدون، أم أنهم مجرد رافضين لبعض جوانب الدين الإسلامي؟
زايد: كل هذا موجود. وبالنسبة للكتاب الذي ذكرته لعبد الرحمن بدوي، فأنا ألقيت عنه محاضرةً وهي موجودةٌ على اليوتيوب، فمثلًا ابن الراوندي كان أشهر ملحدٍ في التاريخ الإسلامي وكذلك أبو العلاء المعري، نوعًا ما وغيره.
أو ملاحدة الإسلام ثلاثةٌ كما قال عبد الرحمن بن الجوزي: المعري، وأبو حيان التوحيدي وابن الراوندي. وأن أخبثهم هو أبو حيان التوحيدي، لأنه لم يصرح تصريحًا واضحًا بإلحاده، بينما صرّح الآخران. فأنا أرى مع ابن الجوزي أنه قد يكون هنالك ملحدون بالمعنى الحديث للإلحاد، أما معنى الإلحاد في الحضارة الإسلامية هو عدم الإيمان بمحمد، عدم الإيمان بالنبوة، وليس له دين، فلو لم تؤمن بمحمد، ولكنك مثلًا مؤمنٌ بالمسيح، فأنت مسيحي، أو يهوديٌ أو أي دينٍ آخر. لكن لو أنك لست مؤمنًا لا بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالمسيح ولا بأي نبي، وترفض فكرة النبوة، فكانوا سيصفوك بالملحد: كابن الراوندي الملحد، وهو لم يكن ملحدًا، كان في كتاباته مؤمنًا بالله، أو كأبي بكرٍ الرازي، والذي كانوا يقولون أنه مؤمنٌ بالقدماء الخمسة، كآلهةٍ أو إلهٍ أو شبه إله، وحتى ابن عربي.
غراب: ابن سينا؟
زايد: ابن سينا لم يكن ملحدًا، بل كان دينيًا، مثل أركون أو نصر أبي زيد، له تأويله الخاص بالدين، له تأويله للجنة والنار، بأن قال أن الجنة والنار ليستا حقيقيتين، وأن الأمر كله مجازٌ ومعانٍ، وأن من المستحيل على الله أن يفعل ذلك، بأن تكون الجنة إباحيةً، جنسٌ إلى الأبد، أو تعذيبًا لشخصٍ مهما كان هذا الشخص أحمقًا، ملحدًا، قاتلًا، زانيًا، فيُعذَّب. لكنه لن يعذَّب إلى الأبد، فأي شيءٍ على ما لا نهاية يساوي صفرًا، وهو غير ممكن.
فأنا أقول في وصف الإلحاد، كما لدى ابن سينا أنه كان دينيًا، لكن له دينًا خاصًا، غير السنة والشيعة، له تأويله الخاص وقراءته الخاصة للدين الإسلامي، أو ابن الراوندي الذي لم يؤمن بالأديان، أو أبو بكرٍ الرازي أو أبو العلاء، الذي يسخر أحيانًا من الأديان ولكنه مؤمنٌ إيمانًا عميقًا بالله، وهذا يأخذني إلى نقطةٍ أخرى أقولها دائمًا، وهي العبارة التي قلتها لك قبل البداية أن الموسومين بالإلحاد في الحضارة العربية الإسلامية لم تكن مشكلتهم مع الله، مع مفهوم الألوهة، ولكن مشكلتهم كانت مع المتحدثين باسم الآلهة، حتى في صورة الأنبياء وليس فقط الشيوخ أو القساوسة، ولكن محمدًا والمسيح وموسى، هؤلاء كانت لديهم مشكلةٌ معهم ومع صدق نصوصهم وصدق كتاباتهم وعقلانيتها. وكانوا ينتقدونها في قلب الحضارة العربية الإسلامية.
فالكثيرون أُتهموا بهذه التهمة، أما الإلحاد بمعنى عدم الإيمان بإله، فهذا ظهر في العصور الحديثة فقط، فلا يوجد في العصر الوسيط ملحدٌ معروفٌ بإنكار الذات الإلهية، ليس بشكلٍ معروفٍ مثبتٍ تاريخيًا، فلا توجد حالاتٌ موثقةٌ أو من بين الشيوخ الرموز، كأبي العلاء أو ابن الراوندي؛ الأسماء نتناقش فيها، وقد ألقيت محاضراتٍ عن كل أولئك المشهورين الذين وصلتنا كتاباتهم، لا يوجد بينهم ملحدٌ بمعنى الإلحاد الحديث، فالإلحاد القديم معناه الانحراف عن الإسلام والنبوة. فمعنى الإلحاد قديمًا هو أقرب إلى مفهوم الربوبية، فالربوبي لا مشكلة لديه مع الله، لكن لديه مشكلةً مع المتحدثين باسم الله. هذا هو واقع الأمر في اللحظة الراهنة، ولعل أول من نادى بالإلحاد كان في عصر الأنوار، أي في القرن الثامن عشر، ومن ثم ما يسمونه عصر «الإلحاد الشرس» في القرن التاسع عشر، مع ظهور ماركس وأوغوست كونت وفويرباخ وآخرين، وقبل ذلك على مر التاريخ لا يوجد إلحادٌ موثقٌ بمعنى إنكار وجود إله، إلا ربما عند اليونان. أما في العالم القديم فلا يوجد، فللعالم القديم آلهته؛ آمون رع وبعل ومردوخ وزيوس، إلى غير ذلك من آلهة، وكانت تلك الأديان أكثر رحمةً وأكثر تعايشًا من أديان العصر الوسيط. فعدا عن كونها بشريةً: «أنت لك إلهك وتحترم إلهي، وأنا لي إلهٌ وأحترم إلهك»، وكانت الناس تعيش في سلام.
فكانت الحروب تحدث لأسبابٍ اقتصاديةٍ أو سياسية، لكن ليس لأسبابٍ دينية. أما في العصر الوسيط مع قدوم التوحيد، فصار المرء يقول: «أنا لي إلهٌ وأنت تعبد الإله الخطأ، إلهًا ضالًا، شيطانًا مريدًا، وأنا أعبد إلهًا حقيقًا رحمانًا رحيمًا»، فتحدث الحرب، حتى داخل الدين الواحد، من الذي يمثل الإله؟ فهذا لم يحدث في العالم القديم إلا أقل من القليل، أما في العالم الوسيط، أي في العصور الوسطى، والتي بدأت باعتناق الإمبراطورية الرومانية للديانة المسيحية وانتهت بسقوط القسطنطينية على يد محمدٍ الفاتح، المبتدئة بالقسطنطينية والمنتهية بالقسطنطينية، وكانت عصور ظلامٍ من حيث الحروب الدينية التي كانت شديدة الشراسة، شملت الحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية، الفتوحات الرومانية المقدسة الدينية، وكلها تمت فيها جرائم ضد الجنس البشري. ربنا يرحم الجميع.
س9: في إحدى محاضراتك وصفت الوضع الحالي بالنسبة للادينيين كأزمة. هلّا أعطيتنا ملخصًا لموقفك من الخطاب اللّاديني، وما هي الأمور التّي يجب أن ننظر لها بتمعنٍ أكثر أو يجب تغييرها كلادينيين؟
زايد: كلادينيين أرى وأخص منهم بالأخص الملحدين المتطرفين في الإلحاد، ليس حتّى اللّادينية الرّبوبية أو اللادينية اللاأدرية…
غراب: الذين يقتلون اللاأدريين…
زايد: [كحض] … ويكمل: اللاأدري يبقى منافقًا… فهذا سخف، أنا أقول إنّ مشكلتنا في العالم العربي تحديدًا هي مشكلةٌ مع تأويل الدين، لو كان تأويل الدين بشكلٍ جيد، فهذا خيرٌ وبركةٌ وليست لدينا مشكلةٌ مع الدين، كما يُفترَض، ولو لم يكن تأويل الدّين جيدًا فالمعركة هي معركةٌ فكريةٌ مع الأفكار الدّينية، مع الفكر الدّيني، مع هذا النص؛ هل هو مقدّس، هل اللّه قال ذلك وليس إن كان الله موجودًا أو غير موجود… مع أنّه من الممكن أيضًا أن تُطرَح، ولكن كنت أنصح الكثير من الأصدقاء الملحدين العرب وأقول لهم يا شباب أو يا أولاد (كان معظمهم أصغر مني سنًّا): عندما تظهرون في البرامج أو شيءٍ من هذا القبيل لا تدخلوا في نقاشٍ في هذه المسألة السخيفة؛ من أوجد العالم، وهل للعالم مُوجِد، وما إلى ذلك من قضايا الحدوث والعناية وأدلة المتكلمين والفلاسفة، هذه الأشياء بعيدةٌ عن الناس، بعيدةٌ عن الجمهور.
الأفضل أن تناقش فيما لو كان هذا النّص نصًا مقدسًا. هل هذا النّص نصٌ قاله الله؟ هل في هذا النّص ثغراتٌ أو ليس فيه ثغرات؟ هذا النص يمكن أن يفهمه الناس في الشّارع بشكلٍ بسيط، بشكلٍ واضح.
وكنت أقول أيضًا من كلماتي لبعض الأصدقاء «إذا كنت تزعم أنه ما من إلهٍ هناك (أي إن كنت جازمًا بالإلحاد) وتبذل حياتك لمحاربة شخصٍ غير موجودٍ فهذا سَفَه، وإذا كان احتمالٌ أنّ هناك إلهًا حتى على المستوى الربوبي أو مستوى الأديان المختلفة كالهندوسي أو أديان الشرق الأقصى أو أديان الأميركتين أو أديان الشرق الأوسط التي هي الإبراهيمية فأنت تحارب شيئًا عظيمًا وتتحدى زيوس، (فخلّيك على قدّك، اعرف حجمك)»، وهذه وجهة نظرٍ أيضًا قابلةٌ للصّواب والخطأ، ولكن على الإخوة الملحدين التركيز أكثر على مسألة بشرية الأديان أو عدم بشريتها أكثر من مسألة معركة الله ووجوده، وأنا مقتنعٌ تمامًا بمقولة (عمّنا) الكبير برتراند راسل أن وجود الله أو عدم وجود الله كمحاولة جدلٍ بيني وبينك الآن إثبات وجود إبريقٍ من الشاي بين زحل وأورانوس، من المستحيل إثبات الوجود ومن المستحيل إثبات العدم.
كأني أقول لك هذه دبي المدينة التي نتحدث منها ليس فيها كنغر، لا أستطيع أن أثبت هذا، انت ممكن تثبت لي بإحضاره لي، فالإثبات على من ادّعى، لكن الإثبات القاطع؛ لعل هنالك سائحًا جاء ومعه كنغر، وربما يضع هاتفه النقال في جيب الكنغر، الله أعلم.
س10: نحن كبشرٍ نتشابه كثيرًا، برأيك الفرق بين الملحد والمؤمن، ما هو جوهر الاختلاف، لا أريد أن أقول النفسي ولكن الفكري، برأيك ما هو الفرق بين إنسانٍ إما ملحدٍ أو مؤمن، ما هو هذا الجوهر؟
زايد: هو اختيارٌ إنساني، تعبيرٌ عن الحرية الإنسانية بل أنا أرى أن الذي خرج من الدين أكثر جرأةً ما لم يكن مختلًا عقليًا، على العموم هناك بعض الملحدين مختلون عقليًا كما أن بعض المؤمنين مختلّون عقليًا، نحن بشرٌ في النهاية. كما أن هناك ملحدًا عبيطًا (غبيًا) هناك مسلمٌ عبيطٌ ومسيحيٌ عبيط، ومن الممكن أن يكون هناك مسلمٌ ذكي، وملحدٌ ذكيٌ وأيضًا مسيحيٌّ ذكي، إنسان… الإلحاد لا يؤدي بالضّرورة إلى أن يكون الإنسان أكثر إنسانيةً، الإلحاد (الحلو) يجعل الإنسان أكثر إنسانيةً، لكن هناك إلحادًا بشعًا مثل التجربة الستالينية، فستالين كان خير نموذجٍ لملحدٍ مجنون.
غراب: بالتأكيد نستطيع القول أيضًا أنها تجربةٌ شيوعيةٌ دينيةٌ أكثر من إلحادية.
زايد: صحيح، جعلوا ماركس نبيًا أرضيًا وأصبحوا ماركسيين أكثر من ماركس نفسه، فالفكرة كلها صديقي تتمحور حول الإنسان.
أنا أرى الإنسان الذي يحاول أن يتحرر ويُغَيِّر، هذا فيه صدق. المسيحي الذي يتحول إلى الإسلام أو المسلم الذي يتحول إلى المسيحية أو الهندوسية هذا شخصٌ أرى فيه صدقًا، الذي يترك الدين، ويترك المعهود الثّقافي أرى فيه صدقًا وأرى فيه أملًا، ما لم يكن مختلًا، المفروض أنّه يُشَجَّع، والأشخاص المنتمون إلى كلّ هذه التيارات المفروض أنّها تتعايش.
هي تبدو فكرةٌ رومانسية، ولكنّها رومانسيةُ براغماتية.
لا بدّ أن نفعل هذا حتّى نستمر، أنت لك أخٌ مشاكسٌ يعيش معك، مقرف، يفعل كل شيءٍ عكس ما تفعل ولكن ليس لك إلا بيتٌ واحد، فتستحمل قرفه ويستحمل قرفك.
س11: تمر مجتمعاتنا بأزمة صراعٍ بين المعاصرة والتراث وهناك شريحةٌ كبيرةٌ من المعادين للتّغيير وهوسٌ يبدو كأحد أكثر معيقات التّنوير بين العرب، ما رأيك في هذه الحالة التّي نحن فيها بين الناس التي تدفع للمعاصرة وبين الجهات المقدسة للتّراث؟
زايد: أرى أنّ الاختلاف بين هؤلاء وأولئك اختلافٌ قديم، من قبل حضور نابليون هناك ناسٌ تبحث عن أفكارٍ جديدةٍ تحاول أن تطور بها واقعها، وهناك ناسٌ تقليديون لا يفعلون شيئًا كثيرًا من أجل تغيير الموروث الذي ورثوه عن آبائهم. في اللحظة الحالية أصبح الموضوع أكثر تعقيدًا وتركيبًا لظهور الحضارة الغربية على الساحة التي ظهرت لنا بعد نابليون، أصبح هناك احتكاكٌ مباشرٌ بعد نابليون عن طريق الاستعمار، وعن طريق مؤسسات المجتمع الدولي، عن طريق الإعلام وثورة الاتصالات والمواصلات، كلّ هذا أدّى إلى أنّ النماذج الإنسانية المختلفة مطروحةٌ على شاشة التلفاز وعلى شاشة موبايل ابنك أو ابنتك وهو نائمٌ بغرفته يتطلع إلى العالم بأفكاره الشّريرة أو الخيرة وما بينها، أي الأفكار التي تجمع ما بين الخير والشر. فلا بدّ للمجتمعات العربية أن تجيب على الأسئلة المختلفة التي تُطرح عليها من خلال الوسائل المختلفة، من خلال الباب والشباك، حتّى تستطيع أن تكون جديرةً بالعيش في القرن الواحد والعشرين.
س12: الدول العربية والإسلامية منذ الستينات تعيش ما يطلق عليه «الصّحوة الإسلامية»، لقد ذكرت أن النساء في الستينات لم تكن محجباتٍ واليوم نرى النقاب منتشرًا بشكلٍ كبيرٍ كنوعٍ من الهوس والمبالغة والمغالاة الدينية، كيف ترى مستقبلها؟ وهل لنا دور، وماذا يمكن أن يكون هذا الدور فيها؟
زايد: أنا أرى المجتمع الإنساني يمر بموجاتٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ ويحصل تغيّرٌ من اليسار، فمثلًا في القرن الماضي من الستينيات أكثر من 70% من دول العالم تتبنى المشروع الماركسي اليساري بأشكالٍ متفاوتة، الآن العالم تحوّل إلى المذهب الليبرالي والرأسمالي أكثر، حتّى في الصين التي هي إحدى قلاع الشيوعيّة.
وكذلك في مسألة المرأة أو مسألة الصحوة أو الكبوة الإسلامية، فالصحوة هي نسبية (هل هي صحوةٌ أو نكبةٌ ولكن هذه مسألةٌ أخرى).
أنا أرى أن تحرر المرأة أيام قاسم أمين وأيام هدى شعراوي في مصر تحررٌ غير كامل، فلهذا حصلت له إخفاقةٌ من وجهة هذا التيار… ونفس الفتاة التي كانت تلبس (المنيجيب) في مصر لبست النقاب وشاع الحجاب، ولكن أيضًا أصبحت الآن ظاهرة الحجاب شبه الإسلامي، يعني حجابٌ فقط بالشكل.
أنا أعرف منقباتٍ ملحدات، منقباتٌ لا يصلّين، محجباتٌ عندهن (بوي فريند)، صديقٌ تمارس معه ال sex أو soft sex على حسب ظروفها وظروفه، فكل هذا موجودٌ وستحصل موجةٌ ثانيةٌ وستكون أكثر شراسةً من موجة الستينات وهذا ما أراه وما أتوقعه، ولكن المسألة مسألة وقت، الوقت أساسيٌ في هذا الموضوع.
س13: إذًا رأيك بالنسبة للماركسية، أو لنقل اليسارية، كمذهبٍ اقتصاديٍّ مررنا به وفشل في الماضي، هل تعتقد أن له عودةً في المستقبل؟ أم أنها مرحلةٌ ومضت؟
زايد: عودةٌ بشكلٍ جديد، وهو أصلًا اليسار، أو المشروع الماركسي بشكلٍ عام، أثّر تأثيرًا إيجابيًا في المشروع الرأسمالي بأن جعله أكثر إنسانيةً، لم يوجد في أوروپا في القرن التاسع عشر ما يسمونه بالرفاه الاجتماعي Welfare في أميركا أو الضمان الاجتماعي Social security، يعني إذا لم يكن لي سكنٌ في مكانٍ ما أو لا أعمل إذًا لدي إعاقةٌ أو مشكلة، أو لا أستطيع الحصول على عملٍ لعدم وجود كفاءةٍ أو أي شيءٍ من هذا القبيل، يعطونني حدّ الكفاف من المال، هذا من تدافع الأفكار لذلك الاختلاف البشري مهمٌ جدًا، فنحن لسنا كلنا شيئًا واحدًا، فلا بدّ من وجود تنوع.
فولادة اللّيبرالية الاجتماعية أو اللّيبرالية الاشتراكية (أنا عملت سلسلةً في القناة عندي – قناتي – عن الإيديولوجيات السياسية)، لدينا اليسار واليمين، وبينهما درجات، ففي المنتصف لدينا ما يمكن أن نسميه «الطريق الثّالث»، فبجزئه الأقرب إلى الليبراليين أو الرأسماليين، هناك اللّيبرالية الاجتماعية التي تراعي الإنسان وتقول بدورٍ للدّولة في تحقيق العدالة والصحة والتعليم، والمقصود هنا العدالة الاجتماعية وليس العدالة القانونية، وفي الناحية الثانية الأقرب لليسار، هناك الاشتراكيون الديموقراطيون الذين يعطون للدولة دورًا أكثر قليلًا من إخوتهم الليبراليين الاجتماعيين.
لذلك أنا أرى أن الأفكار دائمًا يحصل لها تجديد، وحتّى الأديان، أرى أنّها ستظل موجودةً في المرحلة القادمة معنا، وليس كما يزعم بعض المفكرين المتحمسين من علماء الاجتماع وعلم الأنثروپولوجيا (علم الإنسان) في القرن التاسع عشر من الملاحدة واللادينيين الذين تنبأوا بسقوط الأديان في القرن العشرين وكانت هذه نبوءةً غير مطابقةٍ للواقع، ولكن المطابق للواقع هو أنه حصل انتشارٌ للّادينية أكثر بكثيٍر من القرن التاسع عشر، كان يقال للقرن التاسع عشر عصر الإلحاد، ولكن عصر ذاك الإلحاد كان عصرًا أحلامهم فيه وردية، أفكارهم لم تكن خاطئةً كل الخطأ لأنه تمّ بالفعل التوسع بالفكر اللاديني بأشكاله المختلفة الذي كان لا يمثل إلا أفكارًا عند بعض النخبة .
فعندما نذكر القرن التاسع عشر نذكر أفكار فويرباخ وماركس وغيره من النخبة، ولكن في القرن العشرين أصبح هناك ظهورٌ للكثير ممن هم من الطبقة العادية وينتمون للّادينية والإلحاد. هذا لم يكن موجودًا في القرن التاسع عشر، فلم يحصل في عصر الأنوار أن يكون الرجل العادي هو ڤولتير، فهذا حدث بعد جهادٍ فكريٍّ وصراعٍ وجهد. والذي أدى إلى تغيير الواقع والهزيمة الكاملة هو «الثورة الجنسية» التي حدثت في الستينات في أوروپا، قضت على كل شيءٍ وأصبح المشروع اللّاديني هو المنتصر في كلّ الشعوب الأوروپية على مستوى رجل الشارع وليس فقط على مستوى المثقف أو على مستوى النخبة.
س14: الثورة، عند الحديث عن إمكانية حدوث ثورةٍ فكريةٍ بين العرب تتداعى إلى مخيلتنا أفكارٌ مثل «الربيع العربي» وخصوصية المجتمع العربي الشرقي واختلافه عن المجتمع الأوروپي، برأيك هل يمكن أن تحدث حقًا ثورةٌ أم أنّنا محكومون بالفشل أو الفساد، مثلما حدث مع الربيع العربي؟
زايد: لا أستطيع القول أني مرحِّبٌ بالثّورة أو غير مرحبٍ بها، لكن الثورة فعلٌ اجتماعيٌّ لا يعلنه شخصٌ، فمثلًا الثورة الفرنسية أكبر ثورةٍ في تاريخ البشرية وأوّل ثورةٍ لها فضل السبق على باقي الثورات، تمت بتفاعلٍ اجتماعي… هم خرجوا، ليس بسبب أفكار ڤولتير، إنما يطالبون بالخبز أولًا، انطلقوا في شوارع پاريس يطالبون بالخبز، وبعد ذلك ظهر الشعار، فكان هناك مثقفون أعدّهم ڤولتير، الذي كان قد مات في حينها، وظهرت الفكرة التي ما زال الإنسان يحلم بها شرقًا وغربًا وفي العالم العربي والعالم الإسلامي وغيرهما من العوالم الأوروپية والآسيوية والأميركية والإفريقية وهو الشعار العبقري «الحرية والإخاء والمساواة»، وهي العيش والعدالة والحرية الاجتماعية، شعارات الثورات الإنسانية في الكوكب.
والثورةٌ فعلٌ ضروريٌ من وجهة نظري وسيولّد خيرًا، الربيع العربي لم يفشل كما يزعم البعض، بل نجح بتحريك الماء الراكد، وعندما تحرك هذا الماء الراكد أتى عليك العفن الذي في القاع والوحل وتعكّر الماء ؛ سيكون الماء غير عكرٍ لأنه راكدٌ ولكنك لو هززته ستخرج العفارة والزبالة، وستحصل إشكالات، وجيلنا لا بدّ أن يعاني وقد لا نشهد نحن ثمار هذا الربيع العربي كما لم يشهد جيل الثورة الفرنسية الأولى ثمار الثورة الفرنسية إلا بعد سبعين سنة، أي أن كل الموجودين في الثورة ماتوا، حتى بدأت تتشكل الجمهورية الفرنسية بشكلٍ يليق بالإنسان.
س15: في المرحلة الحالية نرى ظهورًا واضحًا للتباين بين الجانب الديني والجانب اللاديني. هناك من يحاول الهجوم المباشر على الأفكار الدينية المجردة محاولةً لتغييرها أو على الأقل لإسقاط قداستها، وهناك من يحاول تغيير الدين من الداخل، فهناك توجهان من الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى الخارج. برأيك أيهما أكثر فاعليةً وأيهما ترى له المستقبل؟
زايد: لن أقول لك المستقبل بيد الله[ضحك] لكن سأقول قد يكون ليس بالضرورة تيارٌ ينجح وينتصر على تيار.
غراب: هما متنافسان ولكن ليسا متضادين، هناك من يريد النقد التام للدين وهناك من يريد إصلاح الدين للإبقاء عليه.
زايد: أنا أرى أن الاثنين سيستمران كما حدث في كثيرٍ من البلدان، فالدين أصلًا يتبنى دائمًا قيم العصر. عندما بدأ الدين الإسلامي تحديدًا، بدأ بالجزية والسبايا فكانت هذه هي ثقافة العصر وبعد ذلك عندما قرر العالم الغربي إلغاء العبودية، الدول الإسلامية كلها إلا قليلًا في استثناءات أيضًا، لكن الدول الإسلامية في معظمها وافق أو حتى لا يوجد قانون، فيما أعلم، في دولةٍ إسلاميةٍ يبيح الرق حتى هذه اللحظة، فقيم العصر هي التي تحكم، ووجود تيارٍ يقدم دينًا للإنسان، دينٌ فيه عدم عنف، فيه خيٌر وهذا شيءٌ مطلوبٌ ووجود تيارٍ ينتقد الدين بشدة أيضًا، أنا أراه مطلوبًا. والديالكتيك، أي الجدل بين هذين التيارين يعمل توعيةً للناس، والناس بعد ذلك تختار ما تشاء وينبغي للتيار الذي ينتقد الدين أن يساعد التيار الذي يريد إصلاح الدين أيضًا، يعني أن يكون فيه نوعٌ من الجدل المفيد للمجتمع من أجل التغلب على التيار الذي يمثل الدين الشرير، الدين الذي يريد الفتك بالآخر وبالمخالف وتطبيق حدود الردة ويقطّع الناس ويرجمهم وهكذا، هذا التيار لا بد من محاولة النيل منه أو التضييق عليه من أجل أن يصل هذا التيار لأفكارٍ أقليةٍ تحت الملاحظة لأنها أقليةٌ خطرٌ على المجتمع، خطر حتى على نفسها وعلى أولادها وخطرٌ على المتدينين قبل غيرهم.
س16: في ظل تزايد العمليات الإرهابية في أوروپا، وهنا ننتقل لأوروپا، هناك تزايدٌ في الجانب اليميني المتطرف وزيادةٌ في تطرف الجانب اليميني الذي ينادي بزيادة الضغوط على الحدود، على اللاجئين، على الهجرة إلى الداخل، فهل تجد أن هذا التغيّر سيقود إلى تحولٍ أوروپي كون هذه الحالة من الزينوفوبيا أو كراهية الآخر كانت موجودةً قبيل الحرب العالمية الثانية؟ هل تجد هناك تشابه بين الحالتين؟
زايد: لا شك هنالك تشابه لكن هناك وعي أكثر الآن. في أيام ما قبل الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك تواصلٌ اجتماعي ولم يكن للآخر وجودٌ في الملعب…
غراب: هل هذا التزايد يهدد واحة العقلانية الموجودة في أوروپا؟
زايد: لا أظنه يهددها، لأن الذي لا يعلمه الكثير من الناس الذين يقولون أن أوروپا تتحول للإسلام، هو أنه بالتكاثر الجنسي والهجرات. كالهجرات الأخيرة، وأشهرها هجرة السوريين وقبلهم العراقيون وقبلهم كان الهنود والأتراك، فكل هذه الهجرات هي التي تزيد نسبة المسلمين وليس التحول ونسبة المتحولين عن شهادة عين، ليس عن سماعٍ أو قراءة، نسبةٌ كبيرةٌ منهم يرتدون عن الإسلام بعد الدخول فيه لأن مسألة الدين عندهم مسألةٌ ثانويةٌ كما أنني بالضبط أشجّع الأهلي، أشجّع بعدها الزمالك، أشجّع ليڤرپول، أشجّع مانشستر، أشجّع اللعبة الحلوة، المسألة بسيطةٌ وليست كما هي عندنا لو أحدنا غيّر دينه يقاطعه أهله وتحصل مشاكلٌ كبيرةٌ جدًا، ممكن أهل القرية أن يتخانقوا مع بعض. هناك لا توجد هذه الإشكالية نهائيًا، تُغير دينك كما تُغير قميصك تخلعه وتضعه في الغسالة وأعطيك قميصًا جديدًا، لا توجد مشكلة. هم لديهم المسألة بهذا الشكل والذي لا يحسب العرب حسابه والمسلمون أن كثيرًا من هذه الهجرات يتنورون ولا ينتمون لنفس الأفكار التقليدية، رأيت كثيرين هكذا من الشباب والفتيات العرب يغير أفكاره وينتقل إلى معسكر العقلانية نوعًا ما مع الحفاظ أحيانًا أو عدم الحفاظ أحيانًا أخرى على انتمائه، فبعض الناس أصبح لديهم إشكالٌ فصارت تبغض الحضارة العربية الإسلامية وهو عربيٌّ مسلمٌ من خلفيةٍ عربيةٍ إسلامية أتى أثرٌ معاكس، وبعض الناس بقي على الحضارة العربية الإسلامية ويحاول أن يغيرها ويطورها، فيقول «أولئك أهلي وعشيرتي في النهاية، لا بد أن أحاول أن أنقل لهم رسالة العقلانية»، ويوجد بين هذا وذاك أيضًا أنواعٌ أخرى كثيرة.
س17: هناك توجهٌ فكريٌّ يرى أن تفاعل الحضارات هو نوعٌ من المواجهة أو الصراع، وهناك عدة عناصر من هذه المواجهة والصراع منها مثلًا النواحي الثقافية، الدينية، الهوية واللغة، برأيك هل هذا التفاعل أو المواجهة الحضارية بين الشرق والغرب، هل ترى لها مستقبلًا أم أنها لن تكون مواجهة أم أن المواجهة ستتطور إلى تمازجٍ أم إلى مواجهةٍ عنيفةٍ أو مسلحة؟
زايد: في داخل العالم العربي؟
غراب: في التلاقح بين الشرق والغرب.
زايد: نهاية المسألة ستعتمد على عقل أولئك وعقل هؤلاء، فالذي يحدث في التاريخ للأسف الشديد هو الوصول إلى مرحلة صدامٍ ثم مرحلة هدوءٍ وتعايش. هذا ما حدث على مر التاريخ. هل يستطيع الإنسان الحديث أن يكون أكثر عقلًا بحيث أنه يتجاوز الصدام إلى حدوده الدنيا المتاحة وأن يصل إلى مرحلة التعايش بين الأفكار المختلفة التي تقبل حقوق الإنسان الأساسية، فهذا ما ستنبؤنا به الأيام.
زايد: كل هذا قائم، كل هذه الاحتمالات واردة، ليس عندي بلّورةً أنظر من خلالها وأرى المستقبل، لكن الإنسان كما أتوقع ينتقل كما انتقل من مرحلة القبيلة إلى الدولة المنظمة إلى الدولة الإمبراطورية إلى الدولة القومية سينتقل إلى الدولة العالمية الواحدة، العولمة التامة المبنية على الثقافة وليس على الوصولية الجشعة، لكن متى سيحدث هذا؟ سؤالٌ مفتوحٌ ليست لدي عنه إجابة.
هذا أيضًا هل سيمر بعقباتٍ أو من الممكن أن تتعرض البشرية كلها إلى نكبةٍ حتى نصل إلى توحد غزوٍ خارجيٍّ فضائيٍّ أو حتى أزمةٍ طبيعيةٍ كالأزمة التي أدت إلى انقراض الديناصورات، سواء ثقب أوزون أو غيره؟!
يوجد فيلمٌ أنتجوه عام 2012 يتكلم عن أزمةٍ وعالٍم هندي ولا أعرف ماذا أيضًا وصنعوا سفنًا فهذه الأشياء قد توحّد البشرية أو قد تقضي عليها أيضًا.
غراب: لا أعتقد أننا بحاجةٍ لمستعمرٍ خارجيٍّ لنقضي على أنفسنا…
زايد: صحيح، أقصد أنه من دون مستعمرٍ خارجي، ممكن حتى أزمةٌ طبيعيةٌ إما تكون سببًا بتقوية التعاون بين الجنس البشري أو القضاء على الجنس البشري، توجد احتمالاتٌ كثيرة. لكن لو مضت الأمور بنفس المتوالية أتوقع أن تحدث الدولة العالمية بلا مواربةٍ لأن مؤسساتها بدأت تنشأ، والذي يدرس تاريخ النظم السياسية يعلم أن التحول من المجتمعات البشرية البدائية القبيلة ثم الدولة تم بنفس التدرج؛ الآن لدينا مؤسسات مجتمعٍ دولي، لدينا محكمة عدلٍ دوليةٍ ولدينا بنكٌ دولي، لدينا أممٌ متحدةٌ أو مجلس أمنٍ. فيها عيوبٌ وفيها مزايا لكن هذه التشكيلات لأول مرةٍ توجد في تاريخ الإنسان، حصلت في القرن العشرين فقط عصبة الأمم التي فشلت ثم جاءت بعدها منظمة الأمم المتحدة، فهذه إرهاصات، وهناك الكثير من الحالمين كتبوا في هذا من أيام كانط وبرتراند راسل وغيره وهنالك مشروع عملٍ (للباسبور) جواز السفر العالمي أي باسبور ليس مصريّ أو سوريّ أو بريطانيّ أو هنديّ، لكن باسبور يكون من كوكبٍ إنساني، أي أن حامله من الأرض، ففيه نكتة [ضحك].
س18: من ناحية مشروعك التنويري كيف تتصور تطوراته مستقبلًا، هل لديك مخططاتٌ لتطويره أو توسيعه؟
زايد: أكيد، فالمشروع بدأ بشكلٍ من العفوية، لكنني أرى من أهمية وجود أكاديميةٍ للتنوير أو هيئةٍ عامةٍ تجمع التيارات التي تؤمن بالإصلاح الديني من جهة أو بلا دينيةٍ عقلانيةٍ إنسانيةٍ من جهةٍ أخرى حتى تستطيع أن تنقل عالمنا العربي إلى بدايات الدخول في مرحلةٍ إنسانيةٍ جديدة.
وأنا أسعى بجهدي المقلّ في هذا وأتمنى أن أستطيع النجاح في التوسع وأن أعدّ بعض الكتابات. لدي بعض الأبحاث أريد أن أجمعها وأشذبها حتى تصلح للنشر على شكل كتابٍ مثل هذا [يحل بيده كتابًا].
الجزء الثاني:
س19: مما لا شك فيه أن محاضراتك ونشاطاتك (رقميًا أو ماديًا) تسعى للنهوض بالإنسان، لتقريب الفكر للناس، وكما ذكرت، فأنت تسعى أيضًا للتوسع، لكن ما هي النشاطات أو الخطوات التي تتمنى رؤيتها لدى الآخرين وتحديدًا لدى الملحدين العرب؟ ماذا تتمنى أن ترى لدى الملحدين العرب؟
زايد: أن يكونوا أكثر هدوءًا ورزانة، أن يكونوا أكثر ثقافةً واطلاعًا، وأن يطّلعوا أكثر على الحركة الإلحادية في أوروپا وفهمها في إطارها الأوروپي وإطارها العالمي، وبهدوء، وعلى رأي إسماعيل ياسين في أحد الأفلام:
(خلّيك بارد)، لا بد عليك بشيءٍ من البرود والقدرة على امتصاص الآخر والتعامل الذكي مع ملفات الدين أو ملفات التخلف أو ملفات الاستبداد، والتي لدينا فيها كلها مشاكلٌ ضخمة، فلا بد للإخوة، سواءً كانوا لادينيين أو ملحدين بأنواعهم المختلفة، أن يكون لديهم شيءٌ من البصيرة والعقل.
س20: على الصعيد الشخصي، ماذا تعني لك الدراما، وما هو دور الدراما في حياتك اليوم؟
زايد: الدراما والفن، أنا أعشق السينما شخصيًا، وقد درست الدراما في برمنغهام، حيث أخذت مساقًا في الدراما، وحتى الدراما اليونانية القديمة درستها، ومثّلت مرةً في مسرحية «حلم ليلة صيف» لشيكسپير في حديقةٍ عامةٍ ربما عام 2000، قبل 19 عامًا من الآن.
غراب: هل حدثت هجرةٌ بينك وبين الدراما، أم لا زال لها دورٌ في حياتك؟
زايد: دورٌ في حياتي، كمتلقٍ، أكيد لا أمثّل ولكن لعلّي أفكر في عمل أفلامٍ وثائقيةٍ قريبًا، وهنالك من يعرضون عليّ هذا، ولو نجحت سيكون ذلك أمرًا جيدًا جدًا، تكون أفلامًا وثائقيةً شبه درامية، كالفيلم التسجيلي. أرى أن الفن مهمٌ جدًا في تغيير أفكار المجتمعات، فلو كان الفيلسوف أو المثقف أو المفكر النخبوي أو المحاضر يتعامل مع قطاعاتٍ معينةٍ من الناس، فالرواية والسينما تتعامل مع قطاعاتٍ أوسع. فحتى في أوروپا حيث يقولون أن معدّلات القراءة أعلى من نظيرتها في العالم العربي، وهذا صحيح، لكن نسبة الأدب أكثر كثيرًا.
هنالك كتيّب أعجبني جدًا اسمه «أدب مفعم بالفلسفة» يتحدث عن فكرة أنه من خلال الأدب والسينما تستطيع تمرير الأفكار بشكلٍ أكثر سلاسةً من عمل محاضرةٍ والاستماع لشخص (حلو) مثلي ساعتين [ضحك]؛ فلا يستطيع كل الناس فعل ذلك، لكن كل الناس تستطيع الذهاب لمشاهدة فيلمٍ جيدٍ فيه أحداثٌ وضحكٌ ولعبٌ وجدٌ وحب، على رأي عبد الحليم حافظ.
س21: سبقْتني إلى هذه النقطة، كنت أريد أن أسأل، في ظل معرفتك الموسوعية وقراءاتك الواسعة والتنوع، هل هناك كتبٌ ترشّحها أو تنصح بها القراء؟
زايد: أهم شيء: أولًا اقرأ ما شئت. عندما كنتُ طفلًا لم يكن هناك pdf، أنا من الجيل الذي شهد ولادة الكمبيوتر مثلما أن أبي من الجيل الذي شهد ولادة التلفاز وأن جدي من الجيل الذي شهد ولادة الهاتف (التلفون)، فأنا من الجيل الذي كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي لأن النقود قليلةٌ فكل كتابٍ أشتريه يجب أن أقرأه، أي ليس لدي وفرةٌ في الكتب.
الآن ممكن أن آتي بكتبٍ كثيرةٍ ونتيجة توفر الpdf، ومن دون مبالغةٍ لدي أكثر من خمسين كتابًا على القرص الصلب الخارجي جمعتهم من عدة كمبيوترات، ومع كل هذه الكتابات أصبح على المرء أن ينتقي، من أجل هذا بدأت في صفحتي على الفيسبوك، وعلى قناتي أيضًا أحاول أن أوجه الشباب للأهم فالمهم.
مجرد اقتراحٍ لكنني مؤمنٌ بالحرية الإنسانية، وفي القراءة فليقرأ كل إنسانٍ ما يشاء.
غراب: لنقل ثلاثة عناوين كتب تنصح بها القرّاء!
زايد: أنصح القراء بثلاثة مواضيع وفي كل موضوعٍ عنوانٌ ترشيحٌ مني وكل إنسانٍ حر. الموضوع الأول هو تاريخ الإنسانية، ليس إنسانًا من لا يعرف تاريخ الإنسانية، ولا أقصد تاريخ الغرب أو الشرق أو العالم الإسلامي أو مصر أو سوريا أو العراق، أقصد بتاريخ الإنسانية، الملحمة الإنسانية الكاملة، كمحاولة ويلز في كتابه «معالم تاريخ الإنسانية»، أيضًا كمحاولة ويل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»، حاول أيضًا حاليًا الكاتب اليهودي نوح هراري في كتابه «تاريخ الهوموسابين» أيضًا محاولةٌ جيدةٌ وأظنه تُرجم للعربية، سأحاول الحصول على نسخةٍ منه قبل مغادرتي دبي، لدي نسخةٌ بالإنجليزي أهداها لي صديقٌ عزيز.
أحاول أنا كأنثى أو أنا كذَكرٍ أن يكون لدي علمٌ بتاريخ أجدادي من الإناث والذكور منذ سالف العصور. هذا موضوعٌ أساسيٌ واقترحت له عدة كتب.
الموضوع الثاني تاريخ الفكر الإنساني بشكلٍ عامٍ وهذا هو المساق الذي أخذته في أحدى الجامعات الأوروپيية، تاريخ الأفكار وكيف تطوّرالفكر، ليس في الفلسفة ولا الدين إنما كيف تطور الفكر كله. لا بد من كتابٍ في علم الأديان المقارن، ككتاب «دين الإنسان» للأستاذ فراس السواح المؤلف السوري ( كنت معه قبل يومين )، كتابه جميلٌ جدًا، أو كتابات ميريسيا إلياد «تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية»، أيضًا كتاب «تاريخ الفلسفة» لبرتراند راسل، الكتاب المبسط، إذ يوجد آخرٌ اسمه «كتاب تاريخ الفلسفة الغربية» وهو كتابٌ معقدٌ مليءٌ بالأفكار مكوّنٌ من ثلاثة مجلداتٍ وكتابٌ آخر مطبوعٌ في عالم المعرفة الصغير اسمه «حكمة الغرب» يتكلم عن الأفكار الفلسفية كيف تتطور في وسطٍ اجتماعي سياسي. هذا يتعلق بالفكر الإنساني وتاريخ الإنسان وهي مواضيع مهمة.
الموضوع الثالث الحضارة العربية الإسلامية على اعتبارها ثقافتنا. علينا معرفة كيف تطورت. من ابن سينا، من ابن رشد، من ابن العربي، من ابن تيمية! وكل شخصٍ من هؤلاء ليس كما يصوره المصورون من الدينين أو اللادينين؛ أنه إما شيطانٌ رجيم، فمثلًا قد يتهيأ لواحدٍ لادينيٍّ أو ملحدٍ أن أبا حامدٍ الغزالي هو شيطانٌ رجيم، أما ابن العربي أو ابن الراوندي الملحد فهو بالنسبة له عظيٌم، حبيبي ملاك.
لا بد أن نترك هذه النظرة الطفولية ونقرأ هؤلاء المفكرين في سياقاتهم العصرية، وحاولت في قناتي أن أغطي كل هذه المواضيع والمتعلقة بالمواضيع الثلاثة السابقة على قدر استطاعتي ومعرفتي واطلاعي.
س 22: مجلة الملحدين العرب متى عرفت بها وما رأيك فيها؟
أنا متابعها من قبل أن تصدر. كانت لي صداقاتٌ مع بعض الأصدقاء وأيضًا في منتدى الملحدين العرب قبل المجلة، في بداية الألفية كنت اطّلع على بعض الكتابات فيها وأحيانًا دخلت في مساهماتٍ باسمٍ مستعارٍ اسمه السندباد أو اسمٍ ما لا أذكره، فهو من مدةٍ طويلة.
المجلة جميلٌة تنشر أفكارًا وتناقش برصانةٍ ويؤخذ منها ويرد عليها كما هو كل عملٍ إنسانيٍّ من أجل الوصول إلى حلم الإنسان بالكمال الإنساني أو (السوبرمان) في التجربة، حتى على مستوى العقل الديني الذي يفكر دائمًا في فكرة المهدي أو الذي سيعود آخر الزمان ويعمل مجتمعًا يسير فيه الذئب بجانب الخروف يتصاحبون ويلعبون سويةً على الأرجوحة، والمرأة تسير عاريةً أو شبه عاريةٍ من صنعاء لحضرموت لا يتحرش بها أحدٌ ولا يعاكسها ولا يغتصبها.
فهذا الحلم الإنساني هو حلمٌ مشروعٌ وإن كان يحمل أحيانًا جوانب خرافيةً في بعض النواحي الدينية، هو مشروعٌ فيه جوانب واقعيةً، وهذا ما حصل منذ كنا متواجدين في الكهف حتى وصلنا لمدنٍ بهذا الجمال وهذا النظام، أيضًا ما زال فيها عيوبٌ وأنا من الذين يتأثرون بعبارة الكثير من المفكرين أشهرهم كارل ساغان: «إن الحضارة الإنسانية الكاملة لم تولد بعد».
تذكّر عندما تصدر من مجلتكم الأعداد التجريبية أو البروفات في المسرحيات، ما زال الأداء المسرحي الأساسي للجنس البشري لم يتم، نحن في مرحلة البروفا وأرى الحضارة المصرية القديمة والفينيقية والسومرية والإغريقية والرومانية والعربية الإسلامية وحتى الحضارة الغربية التي هي قمة تطور الحضارات الإنسانية رغم أن لها ما لها وعليها ما عليها، هذه الحضارة أيضًا ما زالت (بروفا) للحضارة الإنسانية التي يحلم بها الفلاسفة الكبار أمثال أفلاطون أو كانط أو راسل أو حتى الفارابي، ففي الحضارة العربية الإسلامية أيضًا هنالك فكرة المدينة الفاضلة وما هو المجتمع الفاضل.
غراب: ختامًا، نشكر لك أستاذ أحمد تكريس هذا الوقت للحديث معنا، قد أفادتنا كثيرًا كلماتك ونتمنى منك تقديم كلمةٍ إلى قراء المجلة من الملحدين والمؤمنين. ماذا تقول لقراء المجلة؟
أقول لقراء المجلة جميعًا عليكم بالعقل، العقل الذي جعلك تقرأ، العقل الذي جعلك تفهم وتسمع وتناقش وتقبل وترفض، فعليك أن تكون عقلانيًا بأقصى حدٍ ممكنٍ بفهم تاريخ تطور العقلانية البشرية، هذا أولًا.
ثانيًا، عليك أن تكون إنسانًا بقدر ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ إيجابية، من حيث احترام الإنسان وقبول الإنسان وتقديس الإنسان إذا كان ثمة مقدس، حتى في الأديان من وجهة نظري، كما قال فراس السواح دين الإنسان، الإنسان عليه أن يتعصب لذاته لا يتعصب لعرقه ولا لجنسه ولا لدينه أو مذهبه على الإنسان أن يتعصب للإنسان.
فوصيتان بسيطتان: كن عقلانيًا، أو كوني عقلانيةً، وكن إنسانًا محترمًا تحب الإنسانية وتحب لأخيك الإنسان ما تحب لنفسك. وأشكرك جدًا وسعدنا بهذا الحوار الذي أرجو ألّا يكون طويلًا على الناس سواء في القراءة أو المشاهدة في اليوتيوب.
غراب: شكرًا لك.
أجرى الحوار: الغراب الحكيم.
بحث: أسامة البني (الوراق)، وليد محمد، يوسف عسكر.
تفريغ النص الصوتي: أسامة البني (الوراق)، Eeveen Doown ،Nicholas Nahhat، Rama Salih،سامي جمال.
مراجعة: غايا آثيست وأسامة البني (الوراق).
تدقيق: إيهاب فؤاد، Abdu Alsafrani ،Yonan Martotte.
منشورات ذات شعبية