بدايةً اسمحوا لي بجولةٍ سريعةٍ على تعريف مفهوم المازوشية، أو ما كانت تسمى فيما مضى بـ (الشبقية المؤلمةAlgolagnie passive)، وفي العربية لفُظت بطرقٍ عدّة مثل: مازوشية أو مازوخية أو مازوكية. فقد جاء هذا المصطلح من الروائي والصحفي النمساوي ليوبولد ماسوش  Leopold Masoch) 1835-1893)، ورواياته التي كانت تدور حول من يستمتع بالألم و التعذيب والإهانة.

والمازوشية،  كما يعرفّها عالم الأعصاب والمحلل النفسي النمساوي سيغموند فرويد Sigmund Freud ، الذي كان مِن أوائل مَن تعاملوا مع هذه الحالة على أنها اضطرابٌ عقليٌ ناجمٌ عن صدماتٍ، وحسب رأيه فإنّ الإنسان الذي يهوى الخضوع للعذاب، يشعر في لاوعيه بالذنب من جراّء رغبته الكامنة بأذيةّ الغير. إذا هي اضطرابٌ يستمد فيه الفرد اللذّة من الألم الذي ينزله به الآخرون، أو الذي ينزله على نفسه، وهو عدوانٌ ارتد إلى الدًاخل، لأن التعبير عنه في موضوعاتٍ خارجيةٍ يكون مشحوناً  بمشاعر الذنب والقلق والشذوذ الذي يشعر به الشخص بلذة الألم والإهانة التي تقع عليه.

 وبالمقابل يقول المؤمنون الحالمون،  سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو حتى بوذيين: إنّ الإيمان يبعث على الراحة والسعادة في النفس، الإيمان  يغذي روح المحبة وفعل الخير والمسالمة، الإيمان حجر الأساسللسلام الداخلي والرضا عن الذات، الإيمان يرتقي بنا روحيا قبل أن نقول أخلاقيا واجتماعيا، على حد تعبيرهم.

ولطالما صدّعوا رؤوسنا وهم يكررون نفس الأسئلة الاعتيادًية : هل يشعر الملحدً بالسعادة؟ً إن كان يشعر بها حقا فمن أين يستمد هذا  الشعور؟ ومن أين يستمد رغبته بالحياة؟ألا يخشى  الملحد الموتً؟ ألا يفكر فيما بعد فنائه؟

هم يسألون هذه الأسئلة في الحقيقة، انطلاقاً من دهشتهم لمنحى تفكير الملحد والتفاسير التي تبناها عقله، بل منه ككل فهو يعدّ كائنا مجهولاً بالنسبة إليهم. فهم وببساطةً يعتقدون أنّ مع غياب الهدف المتمثل بـ ˝إرضاء الإله الخالق˝، فمن البديهي غياب الأمل بالحياة والسعادة.

ومع غياب الحافز لفعل الخير، أو الرادع لفعل الشر، من خلال الثواب والعقاب في الآخرة، فإننا بنظرهم لا نفعل الخير بالأصل ولا نتردد في ارتكاب الموبقات أو الفواحش، أو أي شئ منافي للطبيعة الإنسانية والبشرية بالدرجة الأولى.

فالمؤمن إذأً يربط الدين بالأخلاق والاستقامة وتوازن الشخصية، والغريب أنه يربط الإيمان والأديان بالمجمل بمفهوم ˝السعادة˝، السؤال هنا: لطالما الدين أو الإيمان بشكل عام هو كالحجر الكريم – من وجهة نظر المؤمن – الذي يشعّ غبطة وطمأنينة فماالغاية من طقوس تعذيب النفس والجسد في غالبية الديانات والمذاهب إن لم نقل جميعها؟قد يراه البعض تقرباً لله, وهذا شيءٌ غريبٌ بالفعل. هل يرضى الإله عن تعذيب المرء لنفسه؟ هل في ذلك ورع أو تقوى أو خير له؟ أليس هو من نسب له مقولة: ˝ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة˝؟ ومقولة: ˝ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماُ˝؟  و ˝لا يكلفّ الله نفساً إلا وسعها˝؟

ماالهدف المرجو من اللهاث خلف الشعور بالألم؟ هل هو ابتغاءٌ لمرضاة الإله؟ هل هو لغسل الخطايا والذنوب على خطى المسيح؟ أم كّفّارة عن تقصير أو شعور بالذنب؟ أم هو حزن أزلي؟أوليس العذاب هو ما توعّد به الإله عباده العاقيّن في الآخرة؟ فكيف به أن يباركه للمؤمنين في الدنيا؟يلحظ الدارس للتاريخ أن تعذيب النفس ما هو إلا  طقوسٌ وثنيةٌ تعود إلى شعوبٍ قديمةٍ وأساطير الأولين .

أي أن صورة ذلك الأله المتسلط، الجبار، المنتقم، الذي يتربص بنا وينتظرنا على غلطة أو سهوة، هي صورة راسخة في عقول البشر منذ بداية تأريخ الحياة على هذه الأرض، منذ أيام الجهل والظلمة، أيامً كانت الخرافة فيها  سيدة الموقف ،الآمرة الناهية في تنظيم المجتمعات التي سبقتنا بكثير.

إضافةً للسجود والركوع وذرف دموع التماسيح، مع أننا لاننكر أن هناك من يبكي حقا خوفا أو جزعا، أو كما يحلو للبعض تفسيره بـ ˝تقوى˝. لكن هنا سأتحدث عن الغالبية، فمن غير المنطقي أنه هناك فًي يومًنا هذا مَنً يبكي بحرقةٍ على شخصٍ قتُل منذ قرون غابرة! فكيف به إن كان يسبب فتنةً وشقاقا ليومنا هذا وكأنه حدث بالأمس القريب؟ فتتأجج مشاعر الحقد والإنتقام في أدمغة الأجيال القادمة ضماناً لئلاّ تموتً هذه الأحزان, ولتبقى رائحة الموت تزكم أنوفنا أينما جُلنا.

ناهيك عن الأناشيد الحزينة  والبكاء وإحياء ذكرى وفاة فلان أو علان من رموزهم، تجد طقوس التعبير عن هذه المشاعر غريبة وأبعد ما تكون عن البشر، كضرب الجسد بأدواتٍ حادةٍ مثلاً، إشعال النيران، البكاء المبالغ فيه، ورقصات الموت …الخ.

من الجدير بالذكر أن طقوساً كهذه كانت حاضرٌةٌ في شبه الجزيرة العربية من أيام الجاهلية، حيث كانت المرأة التي تفقد زوجها تجلس يوم مأتمه قرب موقد النار، وتبدأ بنثر الرماد على شعرها، وصفع وجهها، ولطم صدرها أمام الجموع وهي تصرخ، وإن لم تفعل فهي مُلامة. إلى أن جاء الإسلام إلى تلك البقعة، فقال أن هذه الأفعال غير مستحبة! لكن سرعان ما عادت هذه الطقوس تحت ستارٍ ديني، ستار المغالاة في حبِّ الإله.. نعم، المغالاة في حبَّ الإله هوأقرب تفسيرٍ لهذه الظاهرة.

جولةٌ على الديانات السماوية وطقوس المغالاة في حب الإله في كّلّ منها إليكم بعض الممارسات على سبيل المثال لا الحصر، فما خفي أعظم بالتأكيد، وخاصةً  في العديد من المذاهب الباطنية الأخرى.

في اليهودية

في طقس الصلاة أمام حائط المبكى، التي تسمى في العبرية ˝كوتيل هدوموعوت˝ أي ˝حائط الدموع.˝ ونظرا لكون الدخول إلى الحرم القدسي محظورا على اليهود منذ خراب الهيكل، فإنّ هذا الحائط هوأقرب نقطة من مكان اًلهيكل التي يمكن لليهودي الصلاة فيها حسًب الشريعة ˝العصرية˝ لليهود.

ونعتقد أن اليهود بالتحديد اعتمدوا في كثيرٍ من مخططاتهم لتبييض صورة دولتهم عبر تمثيل دور الضحية، والتلذذ بعقدة الاضطهاد التي تلازم تاريخهم. فحسب رؤية الكاتب محمد أحمد النابلسي في كتابه (يهود يكرهون أنفسهم) يقول: “هم على ما يبدو لن يكتفوا بتلك البكائيات لاستمرار البحث عن أماكن جديدًةً لممارسة صنعة البكاء لديهم، ويصعب على أي باحث معاصر أن يحصي بكائيات اليهود في هذا المجال، حتى يمكننا القول بأن اليهود استنفذوا كل الجهد بحيث لم يبق ما يستغل لهذه البكائية”. وقد أطلق عليه العرب المقدسيون اسم “حائط المبكى” نسبةً إلى الطقوس التي كان اليهود يؤدونها قبالة الحائط حداداً على خراب هيكل سليمان، ولليوم، ومنذ آلاف السنين التي مضت على هذه الأسطورة، لازالوا ينحبون ألماً!

في المسيحية

هم يرون أن المسيح تحمّل العذاب لأجل خلاص البشرية بصلبه وما تكبّد جسده من آلام حبّاً فينا، فقد تحمل العذابات والآلام لأجلنا. تقول المتدينة الايطالية الكاثولوكية باولا بانيتي، أن القس جوزمايا اسكريفا (مؤسس حركة الكاثولوكية المحافظة المتطرفة  أوبوس داي Opus Dei) أمر بتعذيب النفس إجبارياً، ويقول في كتابه: “المباركة للعذاب، الحب للعذاب ،المجد للعذاب”.

ولليوم في الكثير من مدن الشرق والتي تحظى بغالبية مسيحية، لازالوا يحييون  ذكرى يسمونها بـ ˝عيد الصليب˝، وفيها يجتمع الأطفال حول صليبٍ من الخشب، يضرمون النار فيه وينشدون تراتيل حزينة، ولا زالت لليوم تشهد بعض المدن أيضا مواكبا بهذه المناسبة ˝عيد الصليب˝  الموافق لـ 14 ايلول / سبتمبر من كل عام،  يسيرون مع صليبٍ مشتعل، وفرقٍ موسيًقيةٍ رسًمية، تعزف ألحانا خاصة بالمناسبة  يملؤها الحزن والألم!

وحتى القرن التاسع عشر  كانً القساوسة يحرمون استخدام النساء للمسكنات أثناء الولادة، إذ كانوا يرون أن تقليل ألم الولادة هو انتهاكٌ صارخٌ لمشيئة الرب يسوع في عقاب المرأة كما جاء في سفر التكوين 3.

وفي هذا الموضوع يقول الفيلسوف برتراند روسل Bertrand Russell الحاصل على جائزة نوبل للأدب سنة 1950: “حدث واحد منطقي هوالذي جعل تقليل الألم البشري ممكنا، ألا وهواكتشاف المسكنات Anaesthetics”، والعالم سيمبسون في 1847 دعا مباشرة لاستخدامها في الولادة، ولكن رجاًل الدين المسيحيين ردوا مباشرًةً بأن الرب في سفر التكوين قال: “أن المرأة يجب أن تلد بالألم”، هذا وجميعنا يعلم عن حرمان الرهبان  من الجنس أو الزواج كبشر تقرباً لله.

مجلة الملحدين العرب: العدد التاسع / شهر أغسطس / 2013