عودة «قناة الملحدين بالعربي» بعد عملية اختراق

في بدايات سپتمبر أيلول 2023 حصل اعتداء على هذا الموقع قامت خلاله جهة ما باستغلال ثغرة أمنية لإزالة محتوى الموقع واستبداله بتصريح مختلق يزعم أن «صاحب ومؤسس الموقع»  قد اعتنق الإسلام وتاب وندم. عدا عن أن الموقع ليس له «صاحب» ولا «مؤسس» واحد وإنما أنه مشروع جماعي، فادعاء أن أحد أفراد الفريق قد اعتنق الإسلام وقرر إغلاق الموقع تعبيرًا عن ندمه هو كذبة لا يمكن أن تصدر إلا عن مؤمن لا يعرف، بل ولا يستطيع تخيل، صعوبة الطريق الذي يسلكه من يترك الدين وكيف أن الندم والتوبة هي من شيم المؤمن المذنب لا الملحد الذي قطع كل صلته بالدين. فعلى وعورة طريق الخروج من الدين، فإن العودة إليه أصعب من ذلك بأضعاف.

كان صاحب هذه الخدعة يقامر على أن إزالته للمحتوى ستسكتنا لأن الموقع صار بيديه، فينتهي المشروع وينفض الجميع من حيث جاؤوا. وحتى لو افترضنا أن المعتدي تمكن من الإغلاق التام للموقع، سيكون بذلك قد أزال فقط الواجهة الخارجية التي نعرض فيها المحتوى للناس، أما نحن كبشر فباقون، وعلى مر السنين أزيلت الكثير من الواجهات التي عرضنا وعرض غيرنا فيها المحتوى، ثم عدنا وبنينا ما هُدم فنحن لا زلنا موجودين بل ونتزايد مع الأيام. التخريب والإرهاب وإسكات الأفواه لم يعد ينفع، وطالما نحن موجودون سنظل نعلي صوتنا. بل إن عمليات التخريب والمقاومة والاضطهاد كانت دافعًا لنُحسن دومًا من أدواتنا وحضورنا ولنزداد عزمًا وإصرارًا على الاستمرار.

دامت سيطرة المخرب على الموقع بضعة أيام كنا خلالها نقيّم الضرر لتبيّن أفضل طريقة للاستعادة دون التسبب في ضرر إضافي. وفي أثناء ذلك هلل بعض المسلمين فرحًا بإغلاق الموقع الذي يرون أنه بؤرة إفساد، واحتفلوا كما لو كان قد سقط أحد حصون الكفار أثناء «الفتوحات الإسلامية» في قديم الزمان بصورة تذكر بالدواعش الذين كانوا يزرعون رايتهم فوق ما يغتصبون. تناقلوا الخبر وهم يدعون بالهداية لمؤسس الموقع المزعوم الذي أسلم. وصاروا يشاركون التصريح المختلق الذي وضعه المخرب، والذي احتوى نصائح ساذجة لا تصدر عن شخص ناضج جاد، ولكن لأن التصريح كتبه أحد منهم وفيهم، بدا لهم معقولًا متوقعًا، فهكذا يكتب التائب إلى ربه كما يتصورونه. الغالبية العظمى من تلك الفئة لا يعرفون شيئًا عن الملحدين ولا يعرفون خطابهم حتى يتمكنوا من تمييز هوية الكاتب، فانطلت عليهم تلك الخدعة. والآن بعد أن عاد الموقع، نتساءل أين هو هذا المؤسس التائب؟ هل قام بالحج بعد أم لعل الهدى ملأ قلبه فانضم إلى فرقة «مجاهدين» في مكان ليموت شهيدًا ويكفر عن سيئاته؟ نطرح هذه التساؤلات أمام من يقولون بوجود هذا الشخص المزعوم لأنه بعد أن أزيل التصريح لم يظهر حضرته علينا، إذ ليس لديه ما يخافه ليخفي هويته، أليس بين إخوته الآن؟ أين هو يا ترى؟ لا بد أن لديه الكثير من الحكمة ليعلّم الملحدين والمؤمنين على حد سواء بعد رحلته في ظلمات الإلحاد، فليظهر على الملأ حتى ينير للجميع الطريق.

على كل حال، فلحسن حظنا لم نفقد التحكم بالموقع تمامًا واستعدنا السيطرة في غضون أيام وأزلنا التصريح المسيء، ولكن للأسف كان المخرب قد استولى على التحكم على ملفات الموقع وحذفها وقام باستبدالها، لكن هذا كان أقصى ما استطاع فعله، ذلك أن النطاق ظل بيدينا، فقمنا بإزالة ما وضعه المخرب وأنشأنا واجهة مؤقتة ثم باشرنا رحلة البدء من جديد عبر استخدام نسخة محفوظة للموقع، لكنها كانت قديمة تحتاج الكثير من التحديث. كما أن برمجيات الموقع نفسه وما يلزم من احتياطات أمنية كانت بحاجة لتحديث، فكان من الواضح أن أمامنا الكثير من العمل الذي سيستغرق الكثير من الوقت والجهد قبل الوصول إلى موقع قابل للاستعمال واستقبال الزوار. وها نحن نعود من جديد، فما الذي استفاده المخرب ومن وقفوا وراءه؟ نرجوا أن يكون إلههم على الأقل قد احتسب لهم عملية الجهاد الإلكتروني هذه له في ميزان حسناتهم… آمين!

كانت الواجهة المؤقتة المرتجلة تحوي رابطًا لتصريح وضعناه على صفحة مجلة الملحدين العرب على الفيسبوك قمنا فيه بإيضاح ما حصل. لاحقًا، عند صدور العدد 111 من المجلة، قام الغراب الحكيم رئيس هيئة تحرير المجلة بكتابة كلمة افتتاحية بهذا الصدد.

وعلى مدى أشهر ظل الموقع على تلك الحالة المؤقتة لا يحتوي سوى الأعداد الجديدة من المجلة، بينما كنا نعمل بقدر سماح المشاغل الحياتية على إعادة بناء الموقع وراء الكواليس. فقد خلّف هذا التخريب أضرارًا، مما عنى أن علينا إعادة بناء وترميم بعض ما تأثر وأن نعيد النظر في الاحتياطات الأمنية في الموقع والتي كانت السبب المباشر فيما حصل، فركزنا اهتمامنا على ذلك أثناء إعادة البناء. ومثلما يؤدي احتراق منزل إلى تدميره، كذلك يؤدي الحريق إلى الحاجة إلى بناء جديد.

الڤيديو الترحيبي على الواجهة المؤقتة للموقع: حفلة روك «نحن غرابا عك» من المسجد الحرام

أعطتنا هذه الأزمة الفرصة لتقييم بعض محتوى الموقع ودوره، وبالفعل كانت العملية مثمرة، فرب ضارة نافعة. لكن الأمر استغرق الكثير من الجهد والوقت، فكل مشاريعنا تقوم على العمل التطوعي وتعتمد جدًا على أوقات فراغنا. ثم جاءت النتيجة تمثل تحسينًا في بعض جوانبه (كما نرجوا)، فيما قد يعتبر ميلادًا جديدًا للموقع، بحلّة جديدة وبالكثير من التجديدات التي نتمنى أن تلقى رضى أصدقائنا ومتابعينا الذين شجعونا ووقفوا إلى جانبنا أثناء ما حصل، سواء بالتضامن أو بتقديم المساعدة التقنية أو النصيحة. كذلك نقدم كل التقدير لمن سبقونا ممن عملوا على الموقع في نسخه المختلفة على مدى السنوات، فقد كان عملهم أساسًا هامًا للنسخة الحالية.

ماذا كانت ردود فعل المسلمين على عودة الموقع المؤقت؟ كانت متناقضة بشكل مضحك مبكي. منهم من لم يصدق بعودة الموقع وظل متمسكًا بالوهم الذي خلقه المخربون، أو ربما بعضهم لم يصله خبر عودة الموقع، كون المصادر الإخبارية التي يثق فيها قد نقلت خبر إسلام «صاحب ومؤسس الموقع» المزعوم، ذلك القديس الذي لا بد أنه انخرط في العبادة وفعل الخير وتوراى عن الأنظار معتكفًا. أما البعض الآخر فهو لم يصدق أن التهكير حصل أصلًا، إنما أن ما حصل كان تمثيلية من طرفنا. وفي خضم ذلك لم نسمع من المخربين أو نعرف هويتهم، ولا نعرف ما إذا كانوا شخصًا واحدًا أو أكثر، وبصراحة لسنا مهتمين لنعرف، فهم ليسوا أول ولا آخر من يريد إسكات نقد الدين بالقوة بدل المواجهة على ساحة الفكر والنقاش، أو حتى السخرية، ولا يوجد ما يهمنا في موقفهم الذي لن يتعدى هذه الهمجية التي ترى في إسكات النقد أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر.

كان بمقدورنا بناء موقع جديد بديل بفكرة جديدة مبنية على معطيات الحقبة الحالية (فبذرة الموقع الأصلي نشأت عام 2011) أو عبر إعادة صياغة المحتوى ليعكس هذه الحقبة، ذلك أن آخر إعادة بناء للموقع تمت في أغسطس آب 2015، وفي الأثناء طرأت تغيرات عديدة على المشاريع المشاركة في الموقع. البديل عن ذلك كان هجر الموقع وهو ما أراده المخربون، وهو سيناريو تكرر كثيرًا إذ نرى مشاريع عديدة على مدى العقدين الأخيرين قد ازدهرت ثم اندثرت دون أن تترك أثرًا ملموسًا يتعدى ما تركته في نفوس متابعيها، رغم الجهود الجبارة التي استثمرها المشاركون على مدى شهور وأحيانًا سنوات؛ سواء أتوقف مشروع ما بسبب انشغال القائمين عليه أم انصرافهم إلى مشاريع أخرى أم كنتيجة تخريب (كما حدث في منتدى شبكة الملحدين العرب الأصلي «المنتدى الأم» الذي انبثقت مجموعتنا على الفيسبوك كامتداد مباشر له).

عدا عن مشروع المجلة ومنتدى الشبكة على الفيسبوك، فإن المشاريع الأخرى التي تجمعت لخلق هذا الموقع قد توقفت الواحد تلو الآخر لأسباب متعددة (إذاعة الملحدين العرب، البط الأسود، عقلانيون وراديو إلحاد 101 إضافة إلى مدونات مكتوبة)، وبالمقابل، ظهرت مكانها في نفس الفترة أعداد هائلة من المشاريع الأخرى التي تتراوح في محتواها وشكلها وأثرها على نطاق واسع جدًا، والعديد منها على جودة عالية. وعندما وُوجهنا بالحاجة لإعادة بناء الموقع كنا أمام خيارين، الأول هو الاستمرار بالصورة السابقة التي فقدت الكثير من زخمها (ليس فقط بسبب توقف عدد من المشاريع المؤسسة للموقع، ولكن لأن الموقع محجوب في عدد من الدول الناطقة بالعربية)، والخيار الثاني إعادة صياغة دور الموقع وتجديد المحتوى. لم يكن الخيار الأول جذابًا، خاصة بعد الاختراق، فإعادة وضع المحتوى بالصورة التي كان عليها تمامًا يعني الإبقاء على روابط كثيرة لم تعد عاملة منذ سنوات، مما يفقد الموقع وظيفته ويحوله إلى متحف أكثر منه مكانًا حيًا. الخيار الثاني كان براقًا، لكنه من ناحية التنفيذ لم يكن جذابًا، لأنه يعني إعادة النظر في الكثير من المحتوى بما في ذلك ضم بعض المشاريع التي لم تكن جزءًا من الموقع القديم وأرشڤة بعض ما اختفى مع الوقت، وهو أمر يستغرق وقتًا وجهدًا، كما أن النسخة المحفوظة من الموقع لم تكن محدّثة وتفتقد لبعض المحتوى والتخصيصات، أي أن المهمة ستقتضي ليس فقط استرجاع المحتوى، وإنما ترميم ما فقد منه على مر السنين، ثم إضافة محتوى جديد. مما عنى أن الموقع لن يكون ذات الموقع الذي كانه قبل التهكير، فهناك محتوى قد أزيل (بفعل أصحابه أو خدمات الاستضافة)، وبالمقابل هنالك الكثير من المحتوى الجديد الذي يستحق وضعه على الموقع. على ذلك، ففكرة المتحف ليست بسيئة إن كان المتحف (الأرشيڤ) مرفقًا بمنشأة حية.

ومن هنا جاء اعتمادنا للخيار الثاني بجمع الأمرين معًا، فأخذنا هذه المهمة على عاتقنا لسببين رئيسيين، الأول أن الموقع لا زال منصة معروفة، وهنالك زخم واستمرارية مع ما سبق رغم كل التغيرات؛ بشكل أساسي من خلال مجلة الملحدين العرب، فرسالتها لا زالت حية والعديد من القائمين عليها منذ البداية لا زالوا مشاركين في المشروع. السبب الثاني هو نفس الدافع الذي أدى إلى إنشاء المجلة وإلى استمرارها، وهو خلق سجل توثيقي لأفكار الملحدين في هذه المرحلة المفصلية كفعل وعي ذاتي مقصود، وهذه هي أهم رسالة لكل مشاريعنا، نضعها دومًا نصب أعيننا، فنحن لا نقدم المحتوى للزوار والقراء والمشاهدين فقط، إنما نفكر أيضًا بالأجيال القادمة وما يمكن أن يستفيدوه ويتعلموه من الخبرات التي يمر بها جيلنا، وهي خبرات فريدة من نوعها منذ نشأة الإسلام، والمقصد هنا ليس من المحتوى المعرفي تحديدًا، فالمعرفة جني خرج من قمقمه إلى غير عودة، إنما هو كذلك المعرفة الخبراتية التي تصعب صياغتها بصورة محددة سهلة النقل. ما نتمناه هو أن تفقد هذه المرحلة تفرّدها ليصير نقد الدين وتركه وحرية تغييره أمورًا طبيعية في صفوف المسلمين، عندها تكمن أهمية هذه الفترة في كونها مرحلة انتقالية، كبداية لحقبة جديدة، لا كفترة عابرة. أما لو عادت الأمور مثلما كانت واندثرت شعلة الإلحاد الحالي، عندها يكون هنالك سجل لما حدث، وربما تكون تلك وصفة تساعد أجيالًا مقبلة على استعادة هذه الشعلة وفهم ما أطلقها هذه المرة بغية أن تكون المحاولات المستقبلية أكثر نجاحًا. ومثلما أن الدور الأساسي للموقع، كان ولا زال أن يكون منصة مستقلة للملحدين واللادينيين الناطقين بالعربية المهتمين بمشاركة أفكارهم وإسماع أصواتهم، فإنه خلال المراحل الأولى لعب والمشاريع التي يخدمها أدوارًا رائدة في كسر الكثير من التابوهات واستكشاف العديد من الطرق والأفكار الغريبة عن مجتماعاتنا، لكن في غرابتها عن ثقافتنا المألوفة تكمن أهمية بالغة في عالم اليوم. لذا، أردنا لهذه الرسالة أن تستمر وأن يستمر الموقع لا فقط كتوثيق لما سبق، وإنما كشاهد على المرحلة الحالية، ومشارك فيها، صغرت أو كبرت مشاركته.