ما الحكمة من أن تُخصَّص بعض التعاليم الأخلاقية للمرأة وأخرى للرجل؟ كأن يُقال: يجوز للرجل فعل ذلك لكن لا يجوز للمرأة والعكس. ما سرّ الازدواجية في تعاليم الأخلاق بين المرأة والرجل في العرف الديني خاصةً؟ أم أنّ الدين مجرّد مرآةٍ تعكس واقعنا؟ أليس من المفترض أن يكون مفهوم الإثم أو “الخطيئة” موحدًا؟ أم أنّ هناك خطيئةٌ زرقاء وخطيئةٌ ورديّة؟

تبايناتٌ جسديةٌ ونفسية، حقدٌ أزلي، مغالاةٌ في الحب والحرص، أزمة ثقة، أم من الممكن اختصار كل ذلك بـ موروثاتٍ اجتماعيةٍ نتيجةً لكل هذه الأسباب مجتمعة؟

أيٌّ من هذه الأسباب آنفة الذّكر يكمن خلف شيطنة المرأة عبر العصور ومعاملتها بهذه الدّونية؟ هل الدين بريءٌ فعلاً باعتباره استلم واقعًا جاهزًا بإرثٍ ثقيلٍ –إن صحّ التعبير-حُدّدت فيه هذه التباينات مسبقًا؟ في الحقيقة، هذا أمرٌ يتشارك فيه الغرب والشرق والأديان الإبراهيمية الثلاث. من يطّلع على كتاب د. جون غراي (النساء من الزُّهرة والرجال من المريخ) يدرك فعلاً أننا أمام كائنين من كوكبين مختلفين. لكن… لنحاول العودة إلى بداية الحياة، لنحاول فهم سرّ هذا الكيل الجائر بمسألة الأخلاق الأنثوية، أو بالأحرى لنحاول فهم ماهيّة الأخلاق بالدرجة الأولى. فقد ربط الفيلسوف الألماني (إيمانوئيل كانط) منشأ الأخلاق بالسعادة، لكنه بنفس الوقت نصّل العاطفة كمرجعٍ للأخلاق باعتبارها متغيرةً نسبيًا، ولا تصلح كمقياسٍ للخير والشر، واستبعد كانط أن تكون السعادة الذاتية أو المنفعة هي لتحرير السلوك الأخلاقي من قيود الميول والأهواء (كتاب تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق – كانط). لكننا نجد أنّ المجتمع الإنساني بحسب تعامله مع المرأة وبنظرته لها اتبع من حيث يدري أو لا يدري مبدأ تحقيق السعادة الذاتية للرجل، للرجل فقط.

الشيطان الورديالسؤال هنا: أليس من أهمّ ما يمكن أن نبدأ به تعريف الأخلاق هو العدل واتباع منهجٍ موحّدٍ إنسانيًا؟ مثلاً: بنفس القدر الذي نرفض فيه بديهيًا أن ُيقال: لا يجوز لأسود البشرة فعل هذا أما الأبيض فيجوز له أو العكس. فعلينا أن نستهجن ازدواجية معايير الأخلاق بين الجنسين أيضاً. وبالعودة بالصورة إلى البداية:

الرجل كان يذهب إلى الصيد ليأتي بالطعام والكساء، والمرأة تلازم البيت والأطفال، اختلاف هذه المهام جاء أولاً من الاختلاف الجسدي بينهما ممّا خلق اختلاف المهام بطبيعة الحال، لكن ما الذي خلقه اختلاف هذه المهام؟ هل السبب يعود لغياب الإنصاف في توزيعها من وجهة نظر أحدهما أو ربما كليهما؟ هل من الممكن أن نعزو هذه السلطة الذكرية إلى زمنٍ ورث الذكر منه اعتدادًا بالنفس مرجعه أنّ مجابهة الوحوش وصعوبة الصيد بما فيه من مخاطرةٍ لا توازي طهي الطعام وحياكة الثياب أو حتى إنجاب الأطفال وتربيتهم؟ فتعامل مع آلام المرأة الجسدية من باب الشفقة، لذا نشأ شعور الرغبة باحتضانها واحتوائها؟ أم أنّ القوة العضلية والبنية الجسدية له ولّد لديه شعورًا بالاستمتاع بلذّة التسلط فيما بعد والاستعلاء والإحساس بتلك الفوقية؟

فموضوع ثورة المرأة على ما سُمي لاحقًا بالظلم أو الاضطهاد بحقها هو حديث العهد نسبيًا، فقد كنا نرى أن الكيل بمكيالين عبر التاريخ لم يُثر حفيظة المرأة كما اليوم أو على الأقل لم يكن بهذه القوة والوضوح أو ربما قد عُتّم عليه! ففي التاريخ الإسلامي مثلاً مفهوم الجواري كان أمرًا مستساغًا، كلنا اعتاد رؤيتهنّ في السينما أو الدراما التاريخية يجالسن الخلفاء و(أمراء المؤمنين) وبكل فخرٍ ودون أن ينتقص ذلك من وزن هذا الخليفة الأخلاقي أو ذاك الملقب (بأمير المؤمنين)! لكن ما هو موقف الحرائر وزوجات الخلفاء من الجواري؟ أكُنّ بوقارِهن مثيراتٍ للملل؟ أكنّ كئيباتٍ وتقتصر مهامهنّ على الإنجاب وهنّ قنوعاتٍ بهذه المهمة عن رضا أم عن تسليم أم هناك حالاتٌ فرديةٌ من التمرّد هُمّشتْ عن قصد ولم ترقى لأن تكون قضيةً تُذكر يومًا؟! لقد كان حفيف حرير ملابسهن وعطورهنّ الزكية ووِسوسة الحُليّ تملأ البلاط أمام أعين زوجات الخلفاء وتحت ناظرهن دون أيّ اعتراضٍ أو امتعاضٍ يُذكر؟!

الشيطان الوردي

لقد تشرّب المجتمع في ذاك الوقت مفهوم الجارية وزُجّ بالعقول والضمائر حتى كاد أن يصبح طبيعيًا، ونكاد نجزم أنّ داخل كل امرأةٍ إلى هذا اليوم جارية. منهنّ من قررت عزلها أو تخديرها في داخلها، ومنهنّ من استسلمت لها، ومنهنّ من لا زالت تترنّح بين رغبتها بأن تنفض عنها غبار الاستعباد وبين الخوف من أن تخسرأنوثتها، هم يقنعونها أنها تخاطر بأن تترجّل عن عرش التكريم الذي خصّها إلهها به، ناهيك عمّا ورثته أنّ استقلالها قد يفقدها الجاذبية في عين الرجل، الرجل الذي يحدّد مسار حياتها وهويتها دون أن تشعر، كما في واحدةٍ من روائع قصص الأديب الروسي الساخر أنطون تشيخوف (الحبوبة) حيث تتجلى إحدى الصور التي كانت أصدق ما عُبّر عن تبعية المرأة لشريك حياتها وفقدانها لهويتها الذاتية مع الزمن، حيث يروي قصة امرأةٍ تترمّل عدة مرّات، فتستغرق في شخصية الزوج إلى حدّ الذوبان والفناء في كل مرة،  فمرّةً (حدّادة)، ومرةً (نجّارة)، ومرةً (معلّمة)، حسب مهن أزواجها المتتابعين، إنها باختصار ظل، ولا تدري كيف تلتفت إلى ذاتها فتمنحها لمن يستخدمها كما يشاء! هي لم تملك الوقت أو الفرصة ربما كي تتعرّف إلى ذاتها!

لن نبرّئ باقي الديانات والحضارات من تهميشها للمرأة ومن تحقيرها أو شيطنتها في بعض الأوقات. فحتى أفلاطون الفيلسوف الرمز في إحدى الأزمنة، قد رسم جمهوريته في كتابه الشهير (جمهورية أفلاطون) مرتبًا طبقاتها بالأفضلية كالتالي: ” الفلاسفة، القادة العسكريون، التجار، الفلاحون، الخدم! (دون ذِكرٍ صريحٍ للنساء حتى بعد الخدم!). فلا الفلسفة ولا الأديان “ذلك التوأم” أنصفتا المرأة! فهل انعكس ذلك على المجتمع أم أنّ الجواب الأفضل أنّ ذلك هو انعكاسٌ عن المجتمع أصلاً؟ سنبدأ بأولى الاحتمالات التي من الممكن أن تكون خلف هذه النظرة الدّونية.

تباينات جسدية ونفسية

لنبدأ بافتراض أنّ السبب جسديٌّ ونفسي، أي كما سبق وقلنا بأنّ بنية المرأة الجسدية هي وراء الاختلاف في بعض المتطلبات الأخلاقية، لكن هل من الممكن أن يختلف مفهوم الأخلاق تبعًا لاختلافاتٍ جسديةٍ حقاً؟ الاختلافات بين الذكر والأنثى مردّها في الأصل إلى اختلافٍ على المستوى الصبغي فقط. لكن ما شأن موضوع الأخلاق بهذا؟

تستحضرنا هنا قصةٌ تروى عن أنه في إحدى القبائل بإحدى الجزر التابعة لإحدى القارات المطلّة على أحد المحيطات المتبعة لإحدى المعتقدات، يُقال إنه في عرف تلك القبيلة يُباح الكذب للرجال فقط أما المرأة فقد تصل العقوبة بحال كذبت على زوجها خصوصًا إلى لدغة عقرب كعقوبة على فعلتها هذه، أما الرجل فلا إثم عليه لو كذب عند الضرورة وخاصةً على زوجته، حسب اعتقادهم ربما يكون الكذب أحيانًا اتقاءً لمشكلةٍ قد تضرّ بالعائلة. وفي غياهب تلك القبيلة أيضاً يُباح للمرأة السرقة أما الرجل فهذا عارٌ كبيرٌ عليه إنْ فعل، ويبرر الحكماء ذلك إلى أنّ المرأة كائنٌ ضعيفٌ جسديًا وفي حال غياب معيلٍ لها فمن حقها المشروع السرقة كي تعيش. طبعًا وقبل أن تضربوا أخماسًا بأسداس فإنّ هذه القبيلة هي افتراضيةٌ وغير موجودة، لكنه ليس سوى مثالٌ بسيطٌ ضربناه كي نجلس مع أنفسنا للحظة ونسأل: هل الأخلاق تتبع نوع الجنس حقاً في بعض الحالات؟

الشيطان الوردي

عندما يعتبر الإله أنه من حق الرجل معاشرة عدة نساءٍ تحت مسمياتٍ مختلفةٍ فلمَ لا يجوز ذلك للمرأة أيضًا؟ قد ينتفض جسدك لدى سماع هذا الاحتمال، ولكن لو عدت بنفسك قليلاً إلى الطبيعة النقية فمن الواجب عليك أن تنتفض من فكرة تعدد الأزواج بحدّ ذاتها وليس فقط لأحد الجنسين! فكلمة زوج لو استعنّا باللغة العربية لشرحها تعني بالضرورة “اثنان” وعندما أقول زوجات وأزواج فيجب أن يكون لغويًا المقصود من الكلام عدة زوجاتٍ لعدة أزواج، أما أن يُقال رجلٌ وزوجاته! فمن قبل أن أتناول الأمر أخلاقيًا هو فاسدٌ لغويًا، وهو تمامًا كقولي امرأةٌ وأزواجها! (بغضّ النظر عن أنّ السبب في استهجان ذلك يعود لمسألة تحديد نسب الأبناء) لكننا نتناولها من المنطلق الأخلاقي والتشريعي هنا. إذاً الأسباب العضوية في معايير الأخلاق غير منطقيةٍ.

لنذهب إلى الأسباب النفسية، هل حقًا سبب اعتبار سلوكٍ ما بأنه أخلاقيٌّ بالنسبة للرجل وغير أخلاقيٍّ بالنسبة للمرأة قد يكون تابعًا لأسبابٍ نفسيةٍ أو لبعض الإفرازات المتباينة في الجهاز العصبي بين المرأة والرجل؟ مثلاً في الإسلام تُعدّ شهادة المرأة في المحكمة ناقصةً ويلزم وجود امرأتان كي يُؤخذ بها، وتفسيرهم هو أن تركيبة المرأة عاطفيًا وعقليًا تختلف عن الرجل، فهي مُعرّضةٌ للنسيان أو نقص التركيز أكثر من الرجل، بينما الرجل يتميز بصفاء الذهن! طبعا كلامٌ اعتباطيٌّ لا أساس له من الصحة علميًا.

الشيطان الوردي

سنعرج قليلاً على موضوع إلهٍ واحدٍ، لكونٍ واحدٍ، عالمٍ بكل شيء، العادل، الذي لا يسهو…السؤال هنا سنوجّهه للإله “العادل”: أنت ومن المفروض أنك خلقتَ الكون كله وخلقتنا جميعًا، أنزلت قواعد وقوانين عديدةً في مؤلفاتك – التي وصلتنا – وقد حثّيتنا على الالتزام بها وإلاّ! خلقتَ الخير وبالمقابل خلقتَ الشر-لحكمةٍ لا زلنا نبحث عنها- المهم، طالما أنك أنت من خلقت الاستثناءات، فمن المؤكد أنك تعلم أن من النساء من تفوق بعض الرجال عقلاً ودرايةً وحنكة؟ وأنّ من الرجال من يفوق بعض النساء عاطفةً ولينًا؟ كيف تعمم بهذا الشكل وأنت تعلم أنّ المرأة العاطفية “التي تنسى فتُذكر إحداهما الأخرى” هي مسالةٌ نسبية؟ وأنه من الإجحاف أن تقارِن امرأةً مثقفةً برجلٍ جاهلٍ في بعض الأحيان؟ فهل يعقل مثلاً أن تُعدّ شهادة “قاضية” في المحكمة ناقصةً وتحتاج لامرأةٍ أخرى بينما قد يقف في مواجهها رجلٌ بسيطٌ لا يُستبعد أن يصادف بأن يكون بالكاد حاصل على الشهادة الابتدائية؟ أو قد يكون عاطفيًا أيضاً ما المانع في ذلك؟ هو شيءٌ نصادفه كثيرًا: رجالٌ عاطفيون دموعهم سخية قلوبهم غضّة رقيقة قد لا يحتمل منظر دجاجةٍ تذبح، بينما قد نصادف نساءً لديهنّ كامل الاستعداد لأن يقطعن رؤوسًا بشرية!

عندما نتكلم عن شهادةٍ في قضيةٍ ما في المحكمة فالأمر في غاية الأهمية بل والخطورة، وقد تكون مصيريةً، خاصةً وأننا نتكلم عن محكمةٍ وقضايا وأمور لا تحتمل الاستهتار.

إذاً، لا التفسير النفسي منطقيٌّ، ولا الجسدي، رغم ادعاء أحد شيوخ الإسلام أنّ دراسةً حديثةً أثبتت أنّ هناك غدةٌ يمتلكها الرجل دون المرأة تُثبت زعم رسول الإسلام وتقف خلف نعته لهنّ بناقصات العقل. هذه الغدة اكتشفها القرآن، ولليوم يبحث عنها الأطباء ولم يجدوها!

حقد أزلي

ما نقصده بالحقد الأزلي هو تحميل المرأة ذنب إغواء جدتها “حواء” لآدم وأنها المسبب لنزوله إلى الأرض، وهو ما ركزت عليه اليهودية والمسيحية في تبريراتهما للعنصرية الذكورية في دينيهما أكثر من الإسلام هنا. لطالما وقف الإنسان محتارًا أمام الآلام التي يتكبّدها جسد المرأة الغض، فاجتهد باختلاق التفاسير، وما كان منه إلاّ أن يحّملها ذنبًا اقترفته منذ الأزل وعليها دفع الثمن، ومنه نعتقد وُلدت فكرة قصة الإغواء. ذُكر في الإنجيل:

للمرأة أن تعلم ولا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت. لأنّ آدم جُبل أولاً ثم حواء. وآدم لم يغوِ لكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي. ولكنها ستخلص بولادة الأولاد أن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقلل خضوع.

وفي اليهودية وكما رُويت قصة الإغواء في التوارة وما ترتب عليها فيما بعد:

وكانت الحيّةُ أَحْيَلَ جميع الحيوانات البريّة التي عملها الربّ الإله، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحيّة: من ثمر شجر الجنة نأكل. وأمّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تَمَسّاه؛ لئلا تموتا. فقالت الحيّة للمرأة لن تموتا. بل الله عالم أنه يوم تأكلا منه تتفتح أعينكما وتكونان كالله عَارِفَيْنِ للخير والشر… فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل… فقال الربّ الإله للحيّة: لأنّكِ فعلت هذا ملعونة أنتِ من جميع البهائم، ومن جميع وُحوش البريّة… وقال للمرأة: تكثيرًا أُكَثِّرُ أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك تكوين 3: 1–16

على الرغم من أنّ نّية حواء لم تكن سيئة، والإله يعتمد على النيّات بالدرجة الأولى في محاسبة خلقه على ما يقترفونه بل على ما ينوون أن يقترفونه كما يدّعي!

مغالاة في الحب!

حبٌّ مبطنٌ للمرأة، يكمن في طيّات كل أمرٍ إلهيٍّ، من ورائه حكمةٌ خفيةٌ خاصةٌ بها. فنحن مثلاً وكما تستشهد الأديان وبالأخص “الإسلام”، عندما نحب شيئًا نصونه ونحافظ عليه بكل قوة، فلو اقتنيتَ جوهرةً نفيسةً فأنت حتمًا ستغلّفها وتحفظها من عيون الطامعين، أما لو كانت رخيصةً في نظرك ولا يهمك أمرها فلن تغالي بصونها وقد تهملها، هم يدخلون من هذا الباب دائمًا ليبرروا هوسهم غير المبرر بمحاصرة المرأة كإنسانٍ يتساوى بحقوقه وواجباته معهم. يحق للرجل أن يغلّفها بالأقمشة كي لا ترمقها العيون فتشتهيها، فتقع بالفاحشة، فتحصل الكارثة. يتكلمون من هذا المنطلق وكأنهم يتكلمون عن حيوانٍ أليفٍ يربّونه أو عن طفلٍ ساذجٍ أُوكِلَ إليهم رعايته.
ومن الأسئلة الشائعة التي نراها: هل ترضى هذا الفعل أو ذاك لأختك؟ هل تقبل أن تفعل أمك هكذا أو زوجتك أو ابنتك هذا؟ نعتقد أنّ هذه النظرة هي ما يصلح تسميته بـ “تشييء” المرأة ومعاملتها كشيء ليس إلاّ، فلو سلّمنا بضرورة النقاش وتبادل الآراء، عندها من الأفضل أن يكون السؤال: هل (تتقبّل) أفضل من كلمة هل (تقبل) فهكذا يكون السؤال مقبولاً، ومن الممكن أن يُسأل لكلا الجنسين عن رأيهم ببعض السلوكيات للجنس الآخر. لكن ما يثير الاستغراب هو كأنّهم يقولون لو أنّ هناك رجلٌ يقبل أن تمارس زوجته أو أخته التجاوزات الأخلاقية فستمارسها حتمًا! لكنّ السبب في أنّ هذه المرأة أو تلك هي ملتزمةٌ ورصينة يعود بالتأكيد إلى أنّ زوجها أو أبيها أو أخيها قد أجاد ردعها ومراقبتها! “حتى أخلاقها تنسب إلى الرجل في نهاية المطاف!”

المغالاة في حبها والحرص عليها غالبًا ما يأتي بردود فعلٍ عكسية، أو ربما ممكن تفسيره “بالخوف” منها وعليها، فهو غالبًا ما يقف في وجه أي تطورٍ أو حتى تعديلٍ بسيط بالنظرة للمرأة أو التعامل معها، ويعود إلى تراكم الأسباب السابقة مجتمعةً في دماغ المؤمن، فقد ورث الرجل كل هذا الحِمْل الثقيل في عقله عن أنّ المرأة أقرب إلى شيطان ووجَبَ مراقبتها، فهي إن لم تسىء عن قصد قد تسيء لنفسها وبالتالي لمن حولها عن غير قصد، لأنها ناقصة عقلٍ وتابع، عاطفيةٌ لا تدرك عواقب الأمور، بالمختصرهي ملحقٌ بشريٌّ بالذكر.

أزمة ثقة

خيانتها أقسى من خيانة الرجل، عقمها أصعب من عقم الرجل، ضعفها برأيهم هو السبب خلف لجوئها لفعل أي شيءٍ كي تحصد مكاسب أو تحمي نفسها من ورائه، وبأنّ قوتها في ضعفها، وأنّ “كيدهنّ عظيم”… كل ذلك يزعزع الثقة بها، أضف إلى ذلك ما جاءت به الأديان من تحذيراتٍ واستحقارٍ لها، واعتبارها شيطانًا بإحدى الأديان، وسبب بلاء البشرية في دينٍ آخر، وبأحسن الأحوال اُستأصلت من ضلع الرجل فهي أمانةٌ في عنقه حتى الموت، عاطفيةٌ أو بالأحرى ناقصة عقلٍ كما فضّل البعض تسميتها. كَمٌّ من الاستعلاء غُرز في قلب وعقل الرجل حتى عطّله بالكامل عن معاينة أيّ أمرٍ يتعلق بالمرأة، ذلك الكائن الغامض بنظره، فاعتبر أنّ من خلقها يفهمها أكثر منه فلجأ إليه محاولاً فهمها.

الشيطان الوردي

موروثات اجتماعية

موروثاتٌ اجتماعية ما هي إلاّ تعبيرٌ مطاط، شماعةٌ تصلح لأن نعلّق عليها كل سلوكٍ نقوم به ولا نجد له تفسيرًا مقنعًا، يصبّ فيها كل ما سبق وذكرناه. لكن من حدّد هذه الموروثات حتى غدت مطيّةً لكل ما يُحيق بنا من تصرفاتٍ شاذة؟ هل من تفسيرٍ لتباينها تبعًا للجغرافية والتاريخ؟ لنحاول في البداية أن نفهم ما هي الموروثات الاجتماعية وما هو أصلها.

يقول المثل الفرنسي: “ثلاثة عوامل تحدّد سلوكياتنا: الدين، المناخ، والسياسة”.

بجولةٍ بسيطةٍ وباستخدام هذه العوامل الثلاثة، سنجد أنها فعلاً من أكثر ما يؤثر بسلوكيات مجتمعٍ دون آخر، فأحيانًا نجد دولاً متجاورةً، لكن نلحظ اختلافاتٍ جليةً بتصرفات أفرادها أو بقيمها الاجتماعية ككل. الدين هو سببٌ حاضرٌ بقوةٍ يشعرنا بهذا الاختلاف عندما نزور قريةً مسيحيةً، وأخرى يهودية، أو إسلامية… سنشعر بالاختلاف أيضاً لو كان البلد قرب خط الاستواء، أو قرب القطب الجنوبي…أو لو قارنّا طبيعة سكان المدن، السواحل، الجبال، الصحاري، والجُزر…

أخيرًا السياسة، وهي المسبب الأقوى للاختلاف أحيانًا بين سلوكيات أبناء المنطقة الواحدة. فالمناطق التي قاست الحروب والويلات سواء لأسبابٍ طائفيةٍ أم سياسيةٍ بحتة ستختلف عن سواها ممّن لم يمر بهذه التجربة.

كل هذا كان مرورًا سريعًا على ما يميز بيئاتنا الاجتماعية وبالتالي يفرز الموروثات التي تتحول إلى تقاليد، ومن هذه الموروثات فكرة أنّ المرأة هي مواطنٌ من الدرجة الثانية وأنّ الرجال قوّامون على النساء تعود في الغالب إلى أحداثٍ قَولَبت المرأة بأدوارٍ معينةٍ عبر العصور، جعلت تركيزها بالفعل ينحصر على أسرتها.

فلو حاولنا تفسير تحرر المرأة الغربية في أوروبا مثلاً نجد أنّ بعد الثورة الصناعية ازداد الطلب على اليد العاملة وباتت العائلات تعمل بكل أفرادها، خرجت المرأة للعمل فصُقلت شخصيتها وتبلورت وخرجت من عباءة الرجل المعيل و واجبات المنزل، فتحررت مع اتساع مساحة استقلاليتها شيئًا فشيئًا، وممّا ساعد على ذلك أكثر تقلّص دور الكنيسة وبالتالي شاءت الظروف أن تُكسر كل القيود في فترةٍ واحدة، وهنا يكمن السبب خلف ما وصلت إليه المرأة في الغرب اليوم لو قارنّاها بالشرقية.

لقد تشرّب مجتمعنا أن المرأة ضلعٌ قاصر، وكان للأديان الدور الأكبر في ترسيخ هذه الفكرة بالطبع، لكن المستغرب أننا لو عدنا إلى العصور الغابرة، عصور الأساطير و بعض الامبراطوريات التوسعية، سنفاجئ بمكانة المرأة في تلك الحقبة من الزمن. كانت الآلهة في الأساطير امرأة! رمز الخصوبة والعطاء، هي إنانا عند السومريين، عشتار عند البابلين، عشتروت عند الكنعانيين، إيزيس عند الفراعنة، أفروديت عند الإغريق وفينوس عند الرومان…وأعظم الممالك والامبراطوريات ترأستها نساءٌ جبابرة، لم يكد يخلو التاريخ من أسماء النساء، إن لم يكن كبطلات فهنّ محرّكاتٌ فاعلاتٌ يلازمهنّ الطابع الراقي المحترم إلى حدّ التقديس في بعض الأحيان، فما السرّ وراء تدهور مكانتها هكذا عند بداية التداول بما يعرف بالأديان الابراهيمية؟

في اليهودية مثلاً حدّث ولا حرج، تعاليمٌ توراتيةٌ غريبة، منها أنّ اليهود يؤمنون أنّ نجاسة ولادة الأنثى ضعف نجاسة ولادة الذكر: ((إذا حبلت امرأة وولدت ذكرًا تكون نجسة سبعة أيام…ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها… وإن ولدت أنثى، تكون نجسةً أسبوعين… ثم تقيم ستة وستين يومًا في دم تطهيرها)) (لاويين 12: 1 –5).

في المسيحية : (( الرجل ليس من المرأة بل المرأة من الرجل. ولأنّ الرجل لم يخلق من أجل المرأة بل المرأة من أجل الرجل. لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها من اجل الملائكة))

في الإسلام: (( لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)) سنن الترمذي (1192)

كل هذا الكمّ من الحقد والإهانات ثم يتبجحون بتكريمهم للمرأة وبأن إلههم عادلٌ منصف!

في النهاية، وطالما أنّه لا الاختلافات النفسية ولا الجسدية أُثبتت، ولا المغالاة في الحب مقنعة، ولا الحقد الأزلي ساري المفعول إلى الآن، لذا من الأنسب أن ننسب كل ما نساؤنا فيه بأنه عائدٌ إلى الموروثات الاجتماعية المبنية على قلة الثقة الخاضعة لعدة عوامل لا يبرأ الدين منها بالطبع بل هو المغذي الأقوى مذ بداية تغلغله في مجتمعاتنا والذي يعود غالبًا إلى ظروفٍ اقتصاديةٍ قاهرةٍ وجهلٍ كان متعمدًا في إحدى الحقب التي مرت بها منطقتنا، وتابعًا لعوامل سياسيةٍ عديدة. خلّف قنوطًا وإحباطًا وظروفًا اقتصاديةً سيئةً، جعل فكرة الإله ملاذًا ربما يلجأ إليه الغالبية في بيئتنا المريضة.

الغريب أن نجد نساءً مؤمناتٍ وبصدق بعد كل هذا التنكيل بكرامتهن من قِبَل الأديان، والأغرب أنه وللأسف وفي كثيرٍ من الأحيان نجد أنّ أكثر من اعترض سبيل تحرّر المرأة…هي المرأة نفسها.

مجلة الملحدين العرب: العدد الثاني عشر / شهر نوفمبر / 2013