في نقد التوليف الدقيق – الجزء الأول

في نقد التوليف الدقيق

مقدمة:

قد تكون قد سمعت يومًا ما بحجة التوليف الكوني التدقيق Argument of Fine-Tuning، ولربما سمعت بأنها واحدة من أفضل الحجج التي تدلنا على وجود الخالق. بعد أن انتهينا من الحجة السببية والكلامية في المقال السابق – في نقد الحجة السببية والكلامية – المنشور في العدد الثامن عشر من مجلة الملحدين العرب، سنبدأ هنا مع حجة أخرى بتعريفها وعرضها أولاً، ثم سنناقش ما وقعت به من أخطاء ومغالطات منطقية في الجزء الأول من هذه المقالة، وننتقل أخيرًا في الجزء الثاني إلى الأراء العلمية الموثوقة والمصرح بنشرها حيال ما يدعى بـ “التوليف الدقيق”.

 

الحجة من التصميم (الحجة الغائية Teleological Argument): وهي حجة تدل على وجود خالق ذكي – عادة ما يتم تحديده بالله – بناءً على أدلة يمكن استيعابها من التصميم المادي الذي كان وجوده متعمدًا لأداء غاية ما.([1]) يمكن أن نتتبع الحجة الغائية الى أن نصل إلى أول تدوين رسمي لها لدى الإغريق بواسطة سقراط وأخذها منه تلامذته وبنوا منها نماذجًا أكثر تركيبًا وتعقيدًا وانتهى بها المطاف ليتم استخدامها في أدبيات الديانات الإبراهيمية، ولعل أهم من قام باستخدامها هما أبو حامد الغزالي وتوما الإكويني حينما وضعها كإحدى طرقه الخمس (Quinque viae) في إثبات وجود الإله.

القديس توما الإكويني

حجة التوليف الدقيق: حجة التوليف الدقيق ببساطة، هي إحدى أنواع الحجة من التصميم (الحجة الغائية) ولكنها تقوم بوضع مجموعة من الأرقام الفلكية الحجم – الفيزيائية المصدر كأدلة للتصميم. وتدعي أن مجرد تغيير ضئيل في هذه الأرقام سيولد كونًا لا يستطيع أن يستضيف الحياة أو قد لا يولد كونًا على الإطلاق.

أي، إن كانت بعض القيم الفيزيائية (ككتلة الجسيمات الفيزيائية مثلاً) مختلفة قليلاً فلن يكون الكون قادراً على إنتاج النجوم كما نعرفها اليوم ولن توجد الحياة فيه. لذا تم وضع هذه الثوابت والقيم الفيزيائية قبل حدوث الانفجار الكبير بواسطة مصمم كان يحمل الحياة – وربما الإنسانية – في خاطره.

بنظرة تاريخية على التوليف الدقيق، نجد أن له بدايات تعود إلى عام 1919 حين أبدى الفيزيائي هيرمان ويل Hermann Weyl استغرابه لرقم عديم الوحدات – وسنرى لاحقًا لماذا أختار رقمًا عديم الوحدات – ذو قيمة كبيرة جدًا، وهو نسبة القوة الكهرومغناطيسية إلى قوة الجذب بين الإلكترون والبروتون (ما يشار اليه اليوم بـ N1)، متسائلاً لما كان قدره مساويًا لـ 1039 بدلاً من أن يكون 1057 أو 10123، وتمت صياغة تسمية “حيرة الأرقام الكبيرة” على هذه الأرقام؟([2])

وفي عام 1927 تم حساب N2 (Eddington Number) وهو عدد البروتونات في الكون المنظور (Observable Universe) ووجد أنه يساوي 1079، أي أنه يقترب إلى حد ما إلى ضعف N1، فلا يمكن ان تكون هذه مجرد مصادفة اليس كذلك؟ لم يكن أحد ليهتم بهذه العلاقات الغريبة بين الأرقام وكانت تعد محض مصادفات، فكلما نظرت حولك إلى أي مجموعة من الأرقام فلا بد أنك من الممكن أن تكون علاقة ما بينها، وهذا شائع جدًا.

ومن الأمثلة على العلاقات بين الأرقام والتخريفات الميتافيزيقية التي تتعلق بها، هي الحسابات التي تمت على الهرم الأكبر في مصر، التي قام بها الفلكي الأسكتلندي تشارلز بيازي سميث Charles Piazzi Smyth ووجد علاقات بين نسبة ثابت الدائرة طـ (π) وطول الهرم والمسافة بين الأرض والشمس ([3]). على أية حال، تم إثبات بعض التلاعبات والأخطاء بهذه الأرقام ([4]). وعلى الرغم ذلك، نلاحظ بعض أثار عمل سميث حتى اليوم في عصر الأنترنت!

بقي حال “حيرة الأرقام الكبيرة” كهذا حتى أشار اليها العالم Paul Dirac وكان من النادر أن يتحدث بول ديراك بأمر ما فلا يأبه له العلماء. أشار بول ديراك إلى علاقة N1 وعلاقة N2 بأعمار النجوم، وإن كانت أعمار النجوم أقل إلى درجة ما من أعمارها الحالية فما كانت العناصر الكيميائية الثقيلة لتتكون؛ فبحسب نظرية الانفجار الكبير لم تكن في الكون المبكر عناصر سوى الهيدروجين والديتريوم (نظير الهيدروجين) والهيليوم والليثيوم، أما العناصر الأثقل، فكانت تتطلب نجومًا بأعمار وأحجام مناسبة لكي تقوم “بصهر” هذه العناصر الخفيفة إلى عناصر أثقل كالكاربون (العنصر الذي من شأنه تكوين مركبات معقدة تنشأ منها الحياة) وغيره من عناصر الجدول الدوري الحالية.

في العام 1974 بدت هذه الأرقام تساق إلى صبغة علمية تحتمل تعليلات ميتافيزيقية – كإثبات وجود إله – بإعادة تسميتها بشكل متلاعبٍ إلى: المبدأ الإنسي The Anthropic Principle، وهو مصطلح صاغه الفلكي براندون كارتر Brandon Carter محاولاً تفسير تلك المصادفات الرقمية بأهداف إنسانية ([5]). وفي عام 1986 أتت جهود كل من Barrow وTippler بوضع ثلاث أنواع من المبدأ الإنسي ذو تلميحات ميتافيزيقية أكثر حتى، وهي كالتالي ([6]):

  1. المبدأ الإنسي الضعيف The Weak Anthropic Principle (WAP): القيم الفيزيائية الملاحظة ليست محتملة على حد سواء، ولكنها لا يمكن أن تتم ملاحظتها إلا في كون يمكن أن توجد فيه الحياة المبنية على الكاربون وتتطور وأن يكون ذلك الكون قديمًا بما فيه الكفاية لتتم ملاحظتها. بالطبع، لا يوجد أي اعتراض على هذا المبدأ، فمن الواضح أنه لا يقدم شيئًا جديد في الحقيقية.
  2. المبدأ الإنسي القوي The Strong Anthropic Principle (SAP): لابد أن يحتوي الكون على هذه القيم، لا غيرها، لكي يكون قابلاً على استضافة الحياة. ويوجد هنالك كون واحد تم تصميمه بشكل هادف لكي يكون مولدًا ومديمًا لهؤلاء الملاحظين. ووجود هؤلاء الملاحظين ضروري لكي يجلب الكون إلى الوجود.
  3. المبدأ الإنسي النهائي The Final Anthropic Principle (FAP): يجب أن تأتي كائنات ملاحظة للكون، ذكية، قابلة على معالجة المعلومات إلى حيز الوجود في الكون، وبمجرد أن تأتي هذه الكائنات الملاحظة إلى حيز الوجود، فلن تموت أبدًا.

لم تلاقي هذه المجموعة – WAP وSAP وFAP – استحسانًا كبيرًا لدى الوسط العلمي. حتى وصفها العالم الموسوعي Martin Gardener بـ CRAP وهو مختصر لـ Completely Ridiculous Anthropic Principle، أي المبدأ الأنسي السخيف تمامًا في نفس العام التي تم نشرها به.([7])

Martin Gardener العالم الموسوعي مارتن غاردنر

التوليف الدقيق اليوم:

منذ أن تم نشر كتاب Barrow وTippler عام 1986 وعلى الرغم من السخرية التي لاقاها، ظهر نشاط لا يمكننا أن نقلل من حجمه في محاولة لاستخدام هذه الحجة – حجة التوليف الدقيق – لإثبات وجود الله. ولعل أكثرها شهرة على الأنترنت هي صفحة الميكروبيولوجي Rich Deem – ولا أدري ما دخل المايكروبيوجيا بهذه الأمور – والتي سرد بها أربعة وثلاثين قيمة مدعيًا بأنه لا يمكن أن يكون الكون مستضيفًا للحياة لو تغيرت([8])، دون أن يدخل بأي تفصيل منها بل اكتفى بذكر اسمها فقط، مشيرًا إلى كتاب Hugh Ross المعنون The Big Bang Refined كمصدر، ودعونا لا ننسى أن الناشر لهذا الكتاب هي مؤسسة Reasons to Believe والتي يملكها Hugh Ross نفسه ويصفها بأنها: “مؤسسة دولية تهتم بالعلم والإيمان لتقديم أسباب جديدة وقوية للإيمان بيسوع المسيح”([9]). أعتقد أننا كنّا ننوي التحدث بشكل علمي قليلاً، أليس كذلك؟

اليوم – عدا صفحة Rich Deem الخارقة الحارقة – نجد أن حجة التوليف الدقيق يتم استخدامها مرارًا وتكرارًا من قبل الدفاعيين اللاهوتيون ولعل من أشهرهم وأكثرهم شغفًا بها هو William Lane Craig  [10]ويأتي بعده مقلديه العمى “حمزة طزطوز Hamza Tzortzis” و “Adam Deen”. كما لاحظت مؤخرًا استخدام الحجة ذاتها لدى في المناظرات التي حصلت بين الملحدين والمعتزلة – ناجح سلهب وآخرون.

حمزة طزطوز

كما أشرت في البداية، في هذه المقال، سأتعرض إلى حجة التوليف الدقيق بجزئين، وسيكون الجزء الأول – ما بين أيديكم حاليًا – مختصًا بالجانب المنطقي والعقلاني لها مع مقدمة – آنف ذكرها. أما الجزء الثاني، فسيكون عرضًا لأهم النظريات والملاحظات والدراسات المراجعة والمصرح بنشرها التي توفر أسبابًا طبيعية لتفسير هذه الأرقام.

الجزء الأول: حجة لم يتم توليف منطقها بشكل دقيق

أولاً: استخدام الوحدات

في صفحة Rich Deem التي تكلمنا عنها أعلاه، نجد أنه قد وقع في خطأ متكرر يشمل معظم قيمه الأربعة وثلاثين، وهو أنه قام باستخدام الوحدات. فيدعي Deem مثلاً أنه لو كانت كتلة النيوترينو 5 × 10-34 بدلاً من 5 × 10-35 كيلوغرامًا، فأن كتلة الجذب الإضافية ستؤدي إلى كون متقلص لا متوسع. يبدو هذا توليفاً دقيقاً بقدر جزء واحد في 10-35 كيلوغرام، فكم دقيق هذا الرقم وكم كان تأثيره بالغاً.

عدة من الأمثلة على التوليف الدقيق التي توجد في الأدبيات اللاهوتية وكتب المبادئ الإنسية تعاني من إساءات فهم بسيطة للفيزياء ولكنها ذي نتائج كارثية. فعلى سبيل المثال أي إشارة إلى التوليف الدقيق لثوابت مثل سرعة الضوء وثابت بلانك أو ثابت جذب نيوتن لا قيمة لها لأن كل هذه ثوابت اعتباطية، يتم تحديد قيمها وفقاً لنظام الوحدات المستخدم. وحدها الأرقام “عديمة الوحدة” – أي التي لا تعتمد على نظم الوحدات – كالنسبة بين قوة الجاذبية والكهرومغناطيسية لها معنى في سياق التوليف الدقيق.

لنفهم هذا بشكل أكثر، دعنّا نتأمل قليلاً في البنية الجسمانية لمايكل جوردان، التي جعلته من أمهر لاعبي كرة السلة. بالطبع فإن طول مايكل جوردان له أثر كبير على أداءه، ولكن هل تعلم أن طول مايكل جوردان تم توليفه بدقة متناهية لكي يكون بهذه المهارة. إذ يبلغ طول اللاعب مايكل جوردان 1.98 × 10-16 سنة ضوئية (0.00000000000000198 سنة ضوئية)، ولو قللنا من طوله جزء واحد بالعشرة آلاف كوادريليون )0.000000000000001( من طوله فسيصبح أسوأ لاعب كرة سلة على الأطلاق!

الخطأ الذي وقع فيه المثال أعلاه هو أنه استخدم وحدة تم تحديد قيمتها اعتباطيًا. والوحدة المستخدمة هنا هي السنة الضوئية، وكان بإمكانه أن يستخدم وحدة أكبر من السنة الضوئية حتى، وسيبدو أن التوليف أكثر دقة. ولكن بمجرد أن نستخدم وحدات أصغر سيبدو لنا التوليف أقل دقةٍ شيئًا فشيئَا. فمثلاً دعنا نستخدم التيرامتر ثم الجيجامتر ثم الميجامتر ثم الكيلومتر ثم المتر، وسنجد أن ذلك الجزء من واحد بالعشرة آلاف كوادريليون هو في الحقيقة متر كامل! بالطبع إن كان طول مايكل جوردان 98 سنتمتر فقط فلن يكون لاعب كرة سلة جيد. ولكن ماذا لو استخدمنا وحدات أصغر حتى كالسنتمتر والديسمتر والميلمتر وصولاً إلى المايكرومتر. فسنجد أن طول مايكل جوردان يبلغ 1980000 مايكرومتر وأن تغييرات تصل إلى الآلاف لا بأس بها. أي أصبح لدينا مدى واسع جدًا، نستطيع أن نختار داخله أيّ رقم كان، وسنجد مايكل جوردان لاعب ماهر كما أعتدنا عليه، فلا يمكننا القول بأن طوله تم توليفه بدقة.

إذًا، وحدها الأرقام عديمة الوحدة (النِسَب) هي من يجب أن يتم استخدامها في هذه الحجة. وفي حال استخدام أي وحدة في تبيان مدى دقة التوليف الدقيق فستكون الحجة باطلة منطقيًا. وقد تحدث عن ذلك الفيلسوف روبرت كلي مقدمًا أمثلة عديدة على التوليف الدقيق ومشيرًا إلى هذا الخطأ. ([11])

مايكل جوردان

ثانيًا: المنطق الأعوج

الحياة البشرية – أو الحياة بصورة عامة – تمتاز بكونها حساسة جدًا للظروف المحيطة، فلو لم یكن الغلاف الجوي شفافًا للضوء فيما یسمى بالمنطقة المرئية من الطیف الكهرومغناطيسي، ولو لم توفر الشمس الضوء في تلك المنطقة، فلن تكون لأعيننا أي فائدة. ولكن هل هذا يعني أن الشمس والطيف الكهرومغناطيسي قد صُمِمَا خصيصًا بمواصفات دقيقةٍ جدًا تمكن كل منهما لأن يكون ذا فائدة للعين البشرية؟

مثال أخر: رياضة الهبوط بالمضلات Sky Diving هي من أمتع العاب الهواء، وتعتمد هذه الرياضة على بضعة متغيرات فيزيائية أيضًا. من المستحيل أن تكون هذه الرياضة ممكنة بدون مبدئِ الجاذبية، والباراشوت (المظلة) من المستحيل أن يعمل بدون مبدأ برنولي للرفع Bernoulli’s principle of lift، ولكن هل هذا يعني أن مبدأ الجاذبية ومبدأ برنولي قد تم توليفهما بشكل دقيق جدًا لأجل رياضة الهبوط بالمضلات؟

لا يبدو هذان كسؤالين ذو منطق، وقد لا يعتقد القارئ بوجود حجج تبنى للدفاع عن الإجابة بـ “نعم” عليهما. ولكن حقيقة الأمر، أن هذه الحجج لا تقدم بذلك الشكل تمامًا، بل مغلفة بقشرة لغویة ذات رنين علمي. ولكن حین تنتزع هذه القشرة، لن یبقى لدینا إلا محتوى أرق من تلك القشرة نفسها.

فكما تلاحظ وقعت حجة التوليف الدقيق بخطأ افتراضِ أنَّ القوانين الفيزيائية تم توليفها بدقة لأجل الحياة البشرية، بينما تدلنا الحقائق العلمية على عكس ذلك تمامًا، فكما نعلم – بشكل جيدٍ جدًا – أن الحياة البشرية تكيفت وفقًا للقوانين الفيزيائية وليس العكس. وهنا أتذكر قول الفيلسوف فولتير متهكمًا في قصته القصيرة كانديد:

“يمكن إثبات أن الأشياء لا يمكن ان تكون غير ما هي عليه؛ لأن كل الأشياء قد خلقت لغاية ما، فيلزم بالضرورة أنها خلقت للغاية الأفضل. لاحظ مثلاً أن الأنف مصنوعة للنظارات، ولهذا نلبس النظارات. والسيقان ظاهر أنها صممت للجوارب وتبعاً لذلك نرتدي الجوارب. والصخور صنعت كي تنحت وتبنى منها القلاع، ولهذا يملك مولاي قلعة عظيمة؛ لأن أعظم بارون في المقاطعة يجب ان يسكن على أفضل وجه. الخنازير أريد لها أن تؤكل، ولذلك نأكل لحمها طوال العام. أولئك القائلون بأن كل شيء جيد، لا يعبرون عن رأيهم بشكل صحيح؛ فعليهم أن يقولوا إن كل شيء بأفضل حال ممكن.”([12])

فولتاير

ثالثًا: إله الفراغات، ومغالطة الاحتجاج بالجهل

ما بال إله الفراغات لا يقوى على مفارقتنا هذه الأيام؟

إله الفراغات God of the Gaps هو مصطلحٌ يصفُ مغالطةً منطقية تختص بها الأديان الربوبية. فحين تعجز القدرات البشرية عن وضع تفسير لظاهرة معينة، تنشأ لدينا فجوة أو فراغ في المعرفة البشرية، فنرى المؤمنون يقفزون على رؤوسنا محاولين وضع كلمة “الله” كتفسير لهذه الظاهرة وملئ الفراغ. لقد تم استخدام إله الفراغات مرارًا وتكرارًا في تاريخ الفلسفة اللاهوتية وحتى ما قبها، ولكن المشكلة التي يواجها هؤلاء اللاهوتيون هو أن هذه الفراغات يتم ملئها تدريجيًا بواسطة اكتشافاتِ وإنجازاتِ المنهجِ العلمي. وبهذا نلاحظ أن إله الفراغات يبدأ بالتقلص، حتى أصبحنا نخاف ألا نراه في بعض الأحيان. خصوصًا بعدما صرح العالم الفيزيائي ستيفن هاوكينغ بقوله: لا حاجة للإله في خلق الكون.

في مقالي السابق “في نقد الحجة السببية” لاحظنا كيف أنها كانت تعتمد على مغالطة إله الفراغات. ولم تنجو هذه الحجة أيضًا من الوقوع في نفس المغالطة. فهي تضع تفسيرًا ميتافيزيقيًا لأمر يصعب على البشر تفسيره في الوقت الحالي على أقل تقدير.

وبالعودة إلى ما قاله ستيفن هاوكينغ، نتذكر رد العالم العبقري، فيلسوف البشرية الأوحد، سفير الأكوان المتعددة في الأرض، بيل أورايلي Bill O’reilly حين يذكر: “فليأتي ستيفن هاوكينغ ويخبرنا كيف أتت الأرض إلى الوجود؟ كيف للشمس أن تشرق وتغرب دون انقطاع؟ لِمَ يحدث المد والجزر دون انقطاع أبدًا؟ حسنًا، إن كان يود أن يفسر لنا كيف حدث كل هذا، فنحن مستعدين لاستقباله، ولكنه لا يستطيع”([13]). نعم، إنها المغالطة الأكثر رواجًا بين المؤمنين، إنها مغالطة المحاججة من الجهل Argument from Ignorance. في عصور سالفة اعتاد البشر أن ينظرون إلى السماء، يشاهدون البرق وينصتون للرعد، ليفترضوا إله غاضب. واليوم حين قرأ بيل أورايلي وغيره معلومة أو اثنتان علميتان، يفترض مصمم ذكي.

    

بيل أورايلي: مثليو الجنس لا يمكنهم إنجاب الإطفال، لا يمكنك أن تفسر ذلك

وبالعودة إلى التوليف الدقيق، نجدهم – بالضبط كما هو متوقع منهم – لا يقدمون سوى كتلة من المغالطات العلمية والمنطقية يتم قيادتها بشكل متحيزٍ جدًا إلى استنتاج توصلوا إليه قبل البدء بها بكثير. للحظة من الزمن دعونا – قبل أن نبدأ بنقدها بشكل فعلي – نفترض أن حجة التوليف الدقيق دامغة وصحيحة، ماذا بعد ذلك؟ ما الخطوة التالية؟ ما مدى قوتها التنبؤية؟ وأي قياسات تجريبية ممكن أن نجريها لكي نقوم بفحصها؟ أي قرارات بإمكانيَّ الأن اتخاذها في العالم الحقيقي مع عواقب حقيقة تجريبية ستظهر بعد إثبات صحتها؟ هذه هي الأحكام المطلقة لكي نقيس مدى علاقة المقترحات والنظريات أو النماذج الاصطناعية بالواقع والحقيقة. ولكن بطبيعة الحال لا يملك اللاهوتيون أي إجابة لأيّ من هذه الأسئلة وينتهي بهم الأمر بمغادرة النقاش بقولهم إنَ وضعُ مثلُ هذه التحديات على كاهلهم أمر غير منطقي أساسًا. لذا لا يمكن أن نأخذ هذه الحجة أكثر من كونها “شحاطة” فلسفية مقدسة تم تصميمها لاستنتاج وجود الإله دون البرهنة على وجوده. نعم إنه إله الفراغات في أوضح تجلياته.

رابعًا: الحاجة إلى المعجزة

تذكر أننا نتكلم عن الله، بكل مواصفاته الخارقة. إنه الإله مطلق القوى، مطلق القدرات، مطلق المعرفة، مطلق الإمكانيات، ضع أيَّ كلمة تدل على القدرة والطاقة والجبروت بعد كلمة “مطلق” وستجد نفسك أمامك الله، إله المعجزات الكبرى. ولكن بعد كل هذا الصفات المطلقة كان هذا الإله عاجزًا أن يأتي بالحياة من دون هذه القيم، هذا ما تدعيه حجة التوليف الدقيق ضمنيًا. ألم يكن بإمكانه أن يخلق آدمَ من طينٍ وحواء من ضُلعٍ أعوج تحت أي ثوابت فيزيائية، أو ضمن أي ضروف كونية؟ لم احتاج الله أن يقوم بتوليف مجموعة من الأرقام الفيزيائية بغية خلقه هذا؟ ألا تعد هذه الأرقام محددةً لقدرته تعالى؟

تذكر أنَّ المؤمنين كانوا يدافعون عن وجود إله خلق كل شيء من العدم، خلق كل شيء بالمعجزة المجردة، وهو مسؤول عن دوران النجوم والكواكب ومسؤول عن شروق الشمس وغروبها ومسؤول عن تلك الأوتاد التي تمسك الأرض أن تميل بنا. بعد هذا وجدناهم يدافعون عن إله خلق الإنسان دون الحاجة إلى نظرية التطور البيولوجي مع الاستغناء عن بعض المعجزات الجيولوجية والفلكية، وبعد ذلك وجدناهم يميلون إلى نظرية التصميم الذكي والتي تعترف بالتطور البيولوجي إلا أنها تشير إلى بعض أمثلة التطور الموجه من التعقيد الغير قابل للاختزال Irreducible Complexity في البكتريا وبعض الكائنات الأخرى، والأن في هذه الحجة نجدهم قد استغنوا عن كل ما دافعوا عنه مسبقًا متشبثين بقشة اسمها التوليف الدقيق قبل خلق الكون – وأضع تحت كلمة “قبل خلق الكون” مئة إشارة. نجدهم اليوم يدافعون عن إله وضع قيمً فيزيائيةً قبل خلق الكون، وانتظر 380 آلف سنة لكي يتكون الهيدروجين والهيليوم والليثيوم، وانتظر بعد ذلك 150 إلى 400 مليون سنة لكي تتكون النجوم وتنصهر هذه العناصر الخفيفة إلى عناصر أثقل، ثم انتظر بعد ذلك انفجار بعض هذه النجوم إلى Supernova كي تنثر مادتها إلى الفضاء، ثم انتظر قدر قليل جدًا من هذه العناصر لكي تتجمع بواسطة الجاذبية إلى كواكب، ثم انتظر بعد ذلك أن يكون أحد هذه الكواكب قادرًا على احتواء مواد عضوية معقدة يمكنها تكوين مركبات عالية التعقيد والتي بدورها تكون قابلة على أن تكرر نفسها (Self-replicatory) كالحامض النووي منقوص الأوكسجين (DNA) والحامض النووي الرايبي (RNA) لكي تكون قابلة على التطور البيولوجي، وانتظرها بعد ذلك أربعة مليارات سنة حدث خلالها العديد من الطفرات البيولوجية وانقرضت العديد من الكائنات الحية حتى أتت بكائنٍ يقف على قدمين أطلق على نفسه تسمية الإنسان، يمتاز بصفات نفسية واجتماعية معينة بحيث يكون قادرًا على الإخلاص الروحي والعبادة، ليرسل بعد ذلك أنبياء ومرسلين ويأمر بإقامة الجوامع والكنائس وبعض الحسينيات. ألم يكن الله قادرًا على اختصار كل ذلك بكلمة “كن” فيكون؟

الله: تبًا لقد ظهر الديناصورات بدلاً من البشر

خامسًا: أشكال أخرى للحياة – الحكم على نتائج أخرى بحسب نتيجة معينة

يبدو الكربون العنصر الكيماوي الأنسب ليكون وحدة البناء لنوع من الأنظمة الجزيئية المعقدة التي تطور صفات حيوية. وحتى اليوم، تُظهِر مواد جديدة مشكّلة من الكربون صفات مهمة وغير متوقعة، من التوصيل الفائق إلى المغناطيسية الحديدية وغيرها. نحن نتوقع أي حياة توجد في الكون أن تبنى على الكربون، أو على الأقل تقوم على كيمياء عناصر ثقيلة بوسعها إنشاء نظم حياتية معقدة. ولكن هذا لا يتوجب أن يكون صحيحًا في كل كون بإمكانه أن يوجد. فعلى الرغم من أن كل أشكال الحياة المكتشفة في كوننا ظهر أن لها نفس التركيب الأساسي، فهذا لا يقتضي أن الحياة مستحيلة تحت أي ترتيب أخر من القوانين والثوابت الفيزيائية الأخرى التي بوسعها إنشاء جدول دوري مختلف جدًا عن جدولنا الدوري المعروف بل ربما إنشاءُ نُظم أخرى لترتيب عناصر كيميائية معينة، فلا يمكننا أن نضع حدًا لهذه الإمكانيات ضمن مخيلتنا.

لا يسعنا سوى تخمين الشكل الذي قد تتخذه الحياة على كوكب أخر تحت ضروف مختلفة. سيكون رائعًا لو توفرت أمثلة أكثر عن الحياة ولكنها غير متوفرة. وأي تخمين أو تحديد للشكل الذي قد تتخذه الحياة في كون يمتلك كتلة إلكترون مختلفة، شدة تفاعل كهرومغناطيسي مختلفة، أو قوانين فيزياء وثوابت أخرى مختلفة هو أمر يقع ضمن إشكاليات كبيرة. نحن ببساطة لا نمتلك المعرفة الكافية لنحدد أشكال الحياة الممكنة ضمن فهمنا البسيط وتعريفاتنا تحت ضروفٍ مختلفة.

المؤمنون الذين يجادلون بأن الكون مؤلف بدقة للحياة الأرضية يتحملون عبئ إثبات أن الشكل الوحيد الممكن للحياة هو الشكل المتوارد على قشرة بسيطة جدًا من الكون تعرف بسطح الأرض، أساسه الحامض النووي منقوص الأوكسجين (DNA). عليهم أن يثبتوا بأن الحامض النووي والأحماض الأمينية التي يحتويها هي الميكانيكة الوحيدة التي يمكن أن تبني عليها الحياة صورها وأشكالها.

لقد أشار إلى ذلك الفيلسوف غيلبرت فولمر وبينَ أن حجة التوليف الدقيق فاسدةٌ منطقيًا، واصفًا هذا الخطأ بـ “الخطأ القاتل Fatal Flaw”. ([14]) وتلخيصاً لتحليله الأكثر تفصيلاً، يمكننا القول بأن برهان التوليف الدقيق يتطلب مجموعة من الحقائق حول كوننا (مجموعة الحقائق س – في الكون رقم 1)، ومجموعة مختلفة (مجموعة الحقائق ص – في الكون رقم 2)، ولكن في هذه الحالة لا يمكننا استخدام (مجموعة الحقائق س – في الكون رقم 1) – وهي كل ما نعرفه – للحكم على (مجموعة الحقائق ص – في الكون رقم 2). وهذا تناقض واضح لحجة التوليف الكوني الدقيق مع المنهج العلمي وشروطه، فلا يمكننا طرح نتيجة معينة، ووضع سمة مميزة عليها، والحكم على نتائج أخرى بحسب هذه النتيجة.

هذا ليس كائنًا فضائي!! هذا كائن تطور في مخيلة البشر ليس إلا .. نحن لا نمتلك أي معلومة الى أي صورة يمكن أن يتطور الكائن الفضائي فنحن لا نمتلك أي معلومة عن بيئته أساسًا ولا نمتلك أي معلومة عن آلية تطوره، ولا نمتلك أي معلومة عن طريقة انتقال الصفات الموروثة الى الأبناء، ولا نمتلك أي معلومة عن اساس الحياة بالنسبة له… بالمختصر: هذا ليس كائن فضائي

سادسًا: حجة غائية، ولكن ما هي غايتها بالضبط؟

لا يبدو هذا كسؤال قد طُرِح عليهم سابقًا. نعم إنها حجة غائية، ولكن ماذا لو حاججتك بأن الغاية من هذه الأرقام والعوامل – ولربما الكون بأكمله – هو إنتاج الثقوب السوداء؟ فبكل تأكيد، يصرف الكون مادة وطاقة ووقت بمقاديرٍ ضخمةٍ إلى حدٍ لا يمكن تصوره لإنتاج ثقب أسود واحد، فما بالك بجميع الثقوب السوداء في الكون؟ وإن كانت الحياة تعتمد على أعمار وأحجام النجوم بشكل غير مباشر (عبر إنتاج العناصر الثقيلة مثل الكاربون)، فالثقوب السوداء تعتمد عليها حتى أكثر من الحياة وبشكل مباشر، لذا يمكن تطبيق نفس الحجة ونفس الأرقام على الثقوب السوداء. إن كانت هذه الإنسانية على كوكب الأرض لا تشكل سوى أقل من حبة رمل بالنسبة للكون، فلا يمكننا أبدًا التقليل من حجم وأهمية الثقب الأسود! ناهيك عن بعض النظريات التي تقترح وجود أكوان كاملة داخل الثقوب السوداء، بل تقترح حتى أن كوننا هذا يقع داخل ثقب أسود.

نعم، أنا – علي النجفي – بكامل قوايَّ العقلية، وسأستخدم هذه الأرقام لأثبت صحة ديانتي الـ “ثقب-سوداوية Black-holism” لأبين أن غاية وجود الكون وغاية توليفه الدقيق بهذه الأرقام هي لإنتاج الثقوب السوداء لا غير.

سابعًا: الطوطولوجيا ووهم المنظور

الطوطولجيا Tautology: هي “قول الشيء نفسه”. ويقال عن جملة ما أنها طوطولجية Tautological إذا كانت دائما تقيم بالصواب، أي أن نتيجتها دائمًا صحيحة مهما كانت قيمة المتغيرات أو المزاعم، فمثلاً لو قلت: “إما سأذهب إلى السوق أو لن أذهب”. بإمكاننا أن نرى أن هذه الحجة طوطولجية جدًا، فجميع الأكوان التي من الممكن أن تستضيفنا – وبهذا يمكننا ملاحظتها – لابد وأنها قابلة على استضافة الحياة وإن لم تكن كذلك فلا يمكننا أن نلاحظها، لذا سنجد جميع الأكوان الممكن ملاحظتها مؤلفة بشكل دقيق، وهكذا سنتنبط أن الله خلقها، إذ نحن الملاحظين هو من تتم استضافته. وإن كان الكون مستضيفًا للحياة – مؤلفًا بشكل دقيق – يعني وجود الله، فهل يعني إن كان الكون ليس قابلاً على استضافة الحياة أن الله غير موجود؟

يمكن أن نرى هنا وهم المنظور الذي وقعنا به، فلربما تقرأ هذا المقال وأنت جالس على شرفة جميلة تطل على المحيط الهادي من على إحدى جزر بولينزيا الفرنسية French Polynesia، مشمئزًا مما تقرأه حاليًا، متسائلاً كيف يمكن أن يأتيَّ هذا المنظر الطبيعي الخلاب دون أن يتم توليف عوامل فيزيائية بدقة بالغة، فلا يمكن أن يأتي هذا بمجرد صدفة عابثة. ولكني لا أتوقع منك أن تقرأ هذا المقال وأنت تعاني من إحدى إعصارات تسونامي وهي تطرق أبواب جيرانك قبل أن تأتي لحضرتك، أو تسقط على فروة رأسك بعض الحمم البركانية، فلن تتمكن حين ذلك من إنهاء هذه الجملة. لذا يمكنني ان أفترض أن 99% ممن يقرأ هذا المقال حاليًا يرى أمثلة جديرة على خلق هادف أو تصميم ذكي أو توليف دقيق – وإن لم يكن في بولينيزيا الفرنسية على وجه التحديد – ولكن دعونا نلقي الضوء على هؤلاء الـ 1% البقية، دعونا نتساءل أين التوليف الدقيق أو التصميم الذكي أو الخلق الهادف لكرتنا الأرضية من هذه الكوارث الطبيعية، وحقيقة أن الكوارث والأهوال والأمور التي يمكن أن تنهي حياة البشري بكل سهولة أكثر وأكبر من أي منظر خلاب طبيعي هي ما يوضح لنا وهم المنظور هذا.

بولينيزيا الفرنسية

البركان وما أدراك ما البركان

تسونامي

لن تكون تسمية المبدأ الإنسي مناسبة جدًا، حين تقع فريسة سهلة لكائن أخر حي؛ إذ توافقت جميع تلك الأرقام الفيزيائية الكبيرة لكي تنتج كائن حي لا قيمة له ولا فائدة بالنسبة للإنسان والإنسانية سوى انه أنهى حياتك مبتسمًا. ولكن دعونا نتجاهل هذا، دعونا نتجاهل جميع الحيوانات المفترسة – البحرية منها والنهرية – ونتجاهل جميع البكتريا والطفيليات وجميع الكائنات الحية الأخرى التي تقوم بنقلها، دعونا نتجاهل حقيقة أن الحياة على سطح الكرة الأرضية ذو طبيعة تنافسية إلى درجة كبيرة جدًا، إما أن تكون مفترسًا أو فريسة. دعونا نتجاهل جميع الكوارث الطبيعية بدئًا من الأعاصير والطوفانات وأمواج تسونامي مرورًا بالانهيارات والعواصف الثلجية وإنتهائًا بالزلازل والحمم البركانية، دعونا نتجاهل حقيقة ألا تخلو سنة من إحدى هذه الكوارث الطبيعية، دعونا نتجاهل أننا إن سقطنا من ارتفاع لا يبلغ سوى عشرة أمتار أو بقينا تحت سطح الماء لأكثر من عشرة دقائق سوف تنتهي حياتنا ويضيع كل ذلك التوليف الدقيق هباءً منثورًا.

نعم، دعونا نتجاهل كل ما ذكر أعلاه، ونضع على عقولنا موانع تفكير تبعث في النفس كمًا هائلاً من العنجهية والجهل – أعتقد أن العمائم مناسبة لهذه الوظيفة. دعونا نتخيل أن الأرض هي جنةُ عدنٍ المنشودة. لسوء الحظ، حتى بعد ذلك سنجد أن معظم الأرض ليست مناسبة لاستضافة الإنسان؛ فلو صعدنا فوق مستوى سطح البحر بثمانية آلاف متر سنموت تدريجيًا من نقص الأوكسجين، ولو نزلنا إلى آلفي متر تحت سطح الأرض، فسنحترق من الحرارة المنبعثة من داخل الأرض. لقد تم فعليًا حساب الغلاف الحيوي للأرض (المنطقة القابلة على استضافة الحياة) ووجد أنه يساوي 0.0007% من حجم الكوكب ([15]) أي أن 99.9993% من حجم كوكب الأرض ليست قابلة على استضافة الحياة.

ولكن هذا مجرد كوكب صغير جدًا بالنسبة للمجوعة الشمسية، ألا يمكننا أن نجد مكانًا مستضيفًا لنا في تلك المجموعة كلها؟ في الحقيقية، كلا، لن نجد. فلتذهب إلى خارج حدود غلاف الأرض الجوي، وإن لم تمت من الضغط الصفري فستلتقطك حرارة الشمس وباقي الإشعاعات التي كنت بعيدًا عنها داخل الغلاف الجوي. وكذا هو الحال على سطح أي كوكب كان، إما أن تتجمد أو تحترق أو تختنق.

[تحديث (11/12/2014): قد يجادل البعض هنا أن هذا دليل على التوليف الدقيق وليس ضدًا له، أي أننا نقبع في المنطقة المناسبة الوحيدة لنا. هذا يذكرني باحد الخلقويين الذي أراد أن يثبت مدى دقة التصميم البشري بإشارته الى وجود سامة للإنسان داخل الاذن الوسطى؛ فإن عبرت تلك المادة الى الجهاز الهضمي فسيموت الإنسان. على الرغم من أنني لم أتحرى صحة هذه المعلومة إلا أن هذا ليس دليلاً على التصميم الذكي، فلماذا قد يضع المصمم الذكي مادة سامة داخل الجسد البشري؟ هذا ليس ذكاءًا؛ بل هو غباء. ألا يمكنه أن يصنع نسخة غير سامةٍ منها؟ كذا هو الحال هنا؛ فلماذا يقوم الله بخلق كل تلك الفضاءات الخالية التي لا فائدة لها بالنسبة للبشر سوى قتله؟ ألا يمكنه أن يصنع نسخة من هذا الكون لا تحتوي على أية أخطاء أو مواد سامة أو فضاءات خالية؟ إن كان قد فعل ذلك ليثبت وجود التصميم الذكي أو التوليف الدقيق، فلم يفعل أمرًا مفيدًا يحتج به بشكل جيدٍ فعلاً، فهو كالمهندس الذي يتعمد أن يقوم بعدد كبير جدًا جدًا من الأخطاء ومن ثم يقوم بفعل أمر صحيح كان بإمكانه فعله منذ البداية لمجرد أن يثبت أن عمله هذا كان صعبًا، أو أنه أجاده]

ما الأرض إلا كوكب واحد بين بضعةِ كواكبٍ أخرى يدور كأقرانه حول نجم هائل هو الشمس. ذلك النظام الشمسي هائلٌ جداً على مقياس المسافات البشرية فالأرض تبعد مئة وخمسين مليون كيلومتر عن الشمس وبلوتو يبعد حوالي ستة بلايين كيلومتر وغيمة مذنبات أورت تمتد على بعد ثلاثين تريليون كيلومتر عن الشمس. ([16]) رغم أن الفضاء بين الكواكب يتضمن كويكبات أصغر، مذنبات، وغبارًا، فالنظام الشمسي يتركب أساسًا من فضاء خالي لا تبدو له أيةَ وظيفة.

أما ما وراء النظام الشمسي نجد فضاءً أوسع بكثير وقاتل بكل تأكيد. فثاني أقرب نجم (بعد الشمس) بروكسيما سنتوري Proxima Centauri يبعد أربعين تريليون كيلومتر وهو جزء من نظام ثلاثي النجوم يدعى ألفا سنتوري Alpha Centauri. ([17]) لاحظ أن الأنظمة عديدة النجوم ليس لها أي دور للاستقرار المداري الذي نعيش فيه على الأرض ([18]) وهو دليل على أخر على أن الحياة ليست على قمة أولويات الكون (إن وجدت تلك الأولويات).

إن شمسنا ونظامنا الشمسي بعيدان جداً عن مركز المجرة، تلك المجرة التي تحتوي تقريباً مئتين إلى أربعمئة بليون نجم أخر وتسمى درب التبانة. ونسبة لحزمة النجوم التي نراها عبر السماء في كل ليلة فمجرتنا المرئية هي قرص لولبي مسطح قطره حوالي مئة ألف سنة ضوئية، وسمكه حوالي عشرة ألاف سنة ضوئية. ([19]) ولن تتخيل مهما حاولت حجم تلك الإبعاد.

صورة لمجرة درب التبانة ونقع نحن حيث السهم المؤشر

ودرب التبانة هذه، ليست سوى واحدة من حوالي مئة مليون مجرة في الكون المرئي أذكر منها غيمتا ماجلان الكبيرة والصغيرة Magellanic Clouds ومجرة المرأة المتسلسلة Andromeda. ناهيك عن الكون اللامرئي، أي الذي لم تصل إلينا إشعاعاته بعد. تخيل أن الضوء القادم من الكون اللامرئي استغرق 13.7 مليار سنة ولم يصل إلينا بعد. لعلك تسأل إذن: كم هو حجم الكون؟

مجرة المرأة المتسلسلة

غيمتا ماجلان الكبرى والصغرى

مقتطف من الكون

إن أبعد مجرة يمكن مشاهدتها هي أبيل Abell والتي تبعد عنا 13.2 مليون سنة ضوئية. ([20]) بما أنه استغرق ضوئها 13.2 بليون سنة ضوئية ليصل إلينا وأفضل تخمين لنا عن عمر الكون هو 13.7 بليون سنة، فنحن لا نرى سوى هذه المجرة كما كانت بعد 500 مليون سنة ضوئية فقط على بداية الانفجار الكبير. ولأن الكون لم يزل يتمدد منذ صدر الضوء عن أبيل، فهذه المجرة تبعد اليوم حوالي أربعين بليون سنة ضوئية. تخيل، علينا أن ننتظر أربعين بليون سنة ضوئية كي نرى المجرة كما هي حالياً. وماذا لو قلت لك أن علم الفيزياء الكونية يقترح أن كوناً أوسع يقع وراء الكون المرئي.

مجرة Abell كما هي في بداية الإنفجار الكبير، أي قبل 13.7 بليون سنة ضوئية

الكون المنظور

حجم الكون مقارنة بالكون المنظور

باختصار، لو أن الله خلق الكون كمكان تم توليفه بشكل خاص للبشرية، فيبدوا أنه قد أهدر قدرًا هائلاً من المستحيل تخيله في الفضاء الذي لن تظهر فيه البشرية أبدًا. كما أنه قد أهدر الكثير من الوقت فبدلاً من ستة أيام، احتاج لتسعة بلايين سنة كي يصنع الأرض وبليون سنة أخرى كي يصنع الحياة، ومن ثم أربعة بلايين سنة أخرى ليخلق البشرية. والبشر لم يمشوا على سطح الأرض إلا لأقل بكثير من واحدٍ بالمئة من عمر الأرض. ([21]) في الواقع حين تتأمل في الأمر لماذا يحتاج الله كامل القدرة ستة أيام؟ ألن تكون له القدرة على خلق كل شيء في لحظة؟

لنتأمل أيضًا في الهدر الجسيم للمادة. فالمئة بليون مجرة – وكل منها يحتوي ما يقارب المئة بليون نجم – تتكون من “مادة ذرية”، أي عناصر كيمائية. والقسم المرئي منها يمثل نصفًا بالمئة من مجموع الكتلة في الكون. 3.5% فقط هي المادة الذرية الغير مضيئة، ومنها 2 بالمئة فقط يتكون من عناصر أثقل من الهيليوم، ونصف بالمئة من هذه العناصر الثقيلة يتألف من الكاربون ([22]). لذا فنجد أن الكاربون يؤلف 0.0007% من كتلة الكون المرئي وربما اللامرئي أيضًا. فهل يمكننا القول بأن الله صمم الكون خصيصًا بحيث يكون قادرًا على تصنيع الكاربون الضروري للحياة؟ ناهيك عن حقيقة أن جزءًا ضئيلاً – جدًا جدًا جدًا – فقط من الكاربون تم استخدامه في خلق البشر.

هذه النسب حصلنا عليها دون حتى أن نُدخِل المادة المظلمة Dark Matter (والتي تشكل 26%( والطاقة المظلمة Dark Energy (والتي تشكل 70%) في حساباتنا. ([23])

وحتى الطاقة يتم هدرها؛ فمن مجموع كل الطاقة التي تشعها الشمس، يُستخدم فوتونان فقط من كل بليون فوتون لتدفئة الأرض، وباقي الفوتونات يذهب عبثًا للفضاء. وماذا لو علمت أن الشمس تطلق 4.2×1044 فوتونًا في الثانية. ([24]) وماذا لو قلت لك أن مجرة درب التبانة تحتوي على 200 بليون نجم على أقل تقدير، والكون المرئي يحتوي على 100 مليون مجرة على أقل تقدير.

وبالفعل فإن الأسطورة التوراتية وشبيهتها القرآنية هي أشد شبها بما قد يتوقعه المرء من خالق كامل، يضفي للأرض مركزية رائعة. ولكن هذا ليس ما نراه؛ فالأرض ما هي إلا نقطة زرقاء باهتة، الأرض ليست دائرة ممهدة ثابتة في وسط السماء تحيط بها الشمس والقمر والكواكب وتتمركز فيما بينهم تحت سقف من النجوم المعلقة لتكون رجوماً للشياطين، كما تصفها أدبيات الأديان الإبراهيمية. ولكن هذه ليست الحقيقة.

الحقيقة بالمختصر هي كالتالي:

  1. يتم هدر 9993% من حجم الكرة الأرضية، إلى أماكن لا يمكن للإنسان أن يحيى بها.
  2. يتم هدر 99.9999999999999999999999999999999927% من حجم الكون، إلى مساحات لا يمكن ان يحيى الإنسان بها ولو للحظة، وهذا هو الكون المنظور فقط.
  3. تم هدر 99.999125% من الوقت، إلى وقت لم يتمكن ولا يمكن في بعض الأحيان – مستحيل – أن يوجد الإنسان فيه.
  4. يتم هدر 99.999998% من طاقة الشمس فقط، إلى طاقة لا دخل لها بحياة الإنسان وليست مفيدة له.
  5. يتم هدر 99.9999999999999999999999998% من طاقة النجوم في الكون المرئي فقط، إلى طاقة لا دخل لها بحياة الإنسان وليست مفيدة له.
  6. تم هدر نسبة أكثر من النسب المدرجة أعلاه جميعًا من المادة، إلى مادة لا علاقة بها بالحياة على كوكب الأرض.

بعد كل هذا، نجد أن الادعاء التالي:

“أن قيمًا وثوابت فيزيائية تم توليفها بشكل دقيق من قبل كيان خالق ذكي، وظيفتها صنع كون بالمواصفات الحالية – التي أطلنا سردها أعلاه، ووظيفه هذا الكون هو احتواء الحياة البشرية”

هو إدعاء خاطئ، وأقل ما يمكن ان يقال بنسبة خطأه أنها “كونية”. ولكي تقترب الصورة، دعني أذكر بأن خطأ هذا الادعاء يشبه خطأ الادعاءات التالية:

“إن إكتشفنا 100000000000 كوكب بنفس حجم كوكبنا لا يمكنهم جميعًا أن يحتوون على سطحهم إلا خلية فايروسية واحدة، فيمكننا القول بأن هذه الكواكب تم توليفها بدقة لأجل الحياة”.

“إن إكتشفنا 100000000000 محيطات بحجم المحيط الهادي، لا يمكنهم جميعًا أن يحتوون إلا على جزيئة H2O واحدة، فيمكننا القول بأن هذه المحيطات تم توليفها بدقة لأجل أن يوجد الماء فيها”.

“إن إكتشفنا وجود قرص صلب Hard Drive بحجم الشمس، لا يمكنه أن يحتوي إلا على بت bit واحد، فيمكننا القول بأن هذا القرص الصلب تم توليفه بدقة لأجل تخزين الملفات”.

“إن إكتشفنا وجود 100000000000 رافعة (كرين Crain) لا يمكنهم جميعًا رفع أي شيء سوى بروتون واحد، فيمكننا القول بأن هذه الرافعات تم توليفها بدقة لحمل الأغراض الثقيلة”.

“إن إكتشفنا وجود طائرة نفاثة لا يمكنها أن تسافر إلا 0.01% من نصف قطر البروتون لكل عشرة مليارات سنة، فيمكننا القول بأن هذه الطائرة تم توليفها بدقة لأن تنتقل بسرعة كبيرة”.

“إن إكتشفنا وجود مصنع يقوم بإفراز 100000000000 لتر من المواد السامة في كل ثانية، ويقوم بصنع جزيئة واحدة مفيدة فقط كل آلفيه (آلف سنة)، فيمكننا القول بأن هذا المصنع تم توليفه بشكل دقيق لصنع المواد المفيدة”.

إن كنت ستضع هذه الادعاءات الخمس في خانة الادعاءات السخيفة والخاطئة، فيجب عليك – منطقيًا وعقلانيًا – أن تضيف إليها إدعاء التوليف الدقيق الذي ذكرناه قبلها. ضع ما توصلت اليه من نتيجة في ذاكرتك، وسنتكلم في الجزء الثاني عن تفسيرات علمية لوجود هذه الأرقام الكبيرة.

تابع الجزء الثاني من هنا


الهوامش:

[1] Dictionary, Oxford English. “Oxford: Oxford University Press.” (1989).

[2] hermann weyl, annals of physics 59 (1919):102

[3] Smyth, Charles Piazzi, and Fatma Turkkan. The Great Pyramid: its secrets and mysteries revealed. Bell Publishing Company, 1978.

[4] Stiebing, William H. Ancient Astronauts, Cosmic Collisions and Other Popular Theories about Man’s Past. Prometheus Books, 1984.

[5] Carter, Brandon. “Large number coincidences and the anthropic principle in cosmology.” Confrontation of cosmological theories with observational data. Springer Netherlands, 1974. 291-298.

[6] Barrow, John D. “The anthropic cosmological principle.” (1986).

[7] Gardner, Martin. “Wap, Sap, Pap, and Fap.” The New York Review of Books 23.8 (1986): 22-25.

[8] http://www.godandscience.org/apologetics/designun.html

[9] Reason to Believe, Http://www.reasons.org/ (accessed December 20, 2008). Italics Original.

[10] Craig, William Lane. “Design and the anthropic fine-tuning of the universe.” (2003).

[11] Klee, Robert. “The revenge of Pythagoras: How a mathematical sharp practice undermines the contemporary design argument in astrophysical cosmology.” The British journal for the philosophy of science 53.3 (2002): 331-354.

[12] Voltaire. Candide. Wildside Press LLC, 2007.

[13] YouTube, Bill O’reilly on Hawking: https://www.youtube.com/watch?v=Nt5Xn9X6xtU

[14] Fulmer, Gilbert. “A fatal logical flaw in anthropic principle design arguments.” International journal for philosophy of religion 49.2 (2001): 101-110.

[15] Margulis, L., and D. Sagan. 2002. Acquiring Genomes: A Theory of the Origins of Species. New York: Basic Books.

[16] Donahue, Megan, Nicholas Schneider, and Mark Voit. The cosmic perspective. Pearson Addison-Wesley, 2004.

[17] Ibid.

[18] Ibid.

[19] Ibid.

[20] Ibid.

[21] Ibid.

[22] Ibid.

[23] http://science.nasa.gov/astrophysics/focus-areas/what-is-dark-energy/

[24] http://www.madsci.org/posts/archives/2003-04/1051351741.As.r.html