بين ما هو حيٌ وما هو ميت

أتذكر في المدرسة الإبتدائية, قبل سنواتٍ مضت, وتحديدًا في صف العلوم الطبيعية, عرض علينا التدريسيون فكرة ضمن المنهج – المنتهي الصلاحية – لم نسمع بها من قبل, فكرة وصفِ كائن تمت تسميته بالـ «فايروس» بأنه يقع كحلقة وصل بين الكائنات الحية والميتة. جميعنا لم نفهم بالضبط ما يعنيه ذلك, وما زال هناك بعض الغموض في ذلك الوصف, ولا يقتصر هذا الغموض على طلبة لا تتعدى أعمارهم الثانية عشرة, بل كان يشمل التدريسيين أيضًا.

 

تماثيل حية:

حينما تسير في أسواق مدينتك وتشاهد التماثيل المشابهة الى حد كبير جدًا للبشر, تكاد الصورة في بعض الأحيان تختلط عليك ولا تميز بين التماثيل الجامدة والبشر الحيّ في ظهيرة يوم حار وأنت عائد من العمل. لعل أهم ما يمكنك أن تميز من خلاله التماثيل من البشر الأحياء هو كون هذه التماثيل جامدة لا تتحرك, ولكن ماذا لو إنعدمت تلك السمة – سمة الجمود – منها؟

لو ذهبت الى بعض سواحل هولندا الغربية, ستتعرف على ما يسمى بـ «التماثيل الحركية Kinetic Sculptures», وهي ألات يصل حجمها الى حجم الحافلات, تتحرك بمفردها وفقًا لنفس المبدأ الذي يعمل به «الفن الحركي Kinetic Art», مصنوعة بشكلٍ أساسيٍ من الأنابيب البلاستيكية والخشب والأشرعة.

التماثيل الحركية Kinetic Sculptures

تلك التماثيل عديدة الأرجل تتحرك بصورة مستقلة ومرنة جدًا, حتى تشكل تحديًا للوهلة الأولى بأن نعدها حيةً نوعًا ما. ولا يخفى ذلك الشعور عن صانعها الهولندي ثيو يانسن Theo Jansen, بل عادة ما يصفها بالحيوانات أو وحوش الساحل strandbeest)), ويكشف عن نيته لأن يطلقها الى الشاطئ يومًا ما لكي تعيش بمفردها.

رائعة, يصفها من شاهدها. ويأتي السياح ليلتقطوا لها صورًا. حتى ينتاب البعض شعورًا بالأسف لو سقطت إحداها ولم تستطع أن تكمل مسيرها – كما لو أنهم يشاهدون طفلًا ينازع ليخطو خطواته الأولى الى أمه. ولكنها ليست حية في الحقيقة, بل هي مجرد ألات, ألات متقنة الصنع جميلة جدًا. بهذا المنطق, سنتفق الأن أنا وإياك, عزيزي القارئ, أنها ليست حية, ولكن سأتركك لوحدك في هذه القناعة قليلًا, وأكمل هذه المقالة, وأبين كيف أنها ليست أقل حياة من كثير من الأنواع التي لا نشك للحظة في كونها حية.

معضلة تعريف الحياة:

ما هي الحياة؟ لا يستطيع العلم أن يخبرنا بتعريف واضح وشامل للحياة, وليست هذه حجة مبنية على الفجوات العلمية, بل عدم إستطاعة العلم لبناء هذا التعريف هو ما تتنبأ به نظرية الـ Abiogenesis والتي بدورها تصف نشوء الحياة. ولفهم كيف حصل هذا, تذكر أنه بحسب نظرية التطور البايولوجي لدارون, لا يوجد ما يوصف بـ «البشري الأول the first homo-sapien», ونفس الحالة نجدها حين نشوء أول الكائنات التي يمكن أن توصف بالحية, فلا يوجد ما يمكن أن نسميه بالكائن الحي الأول.

لم تبدأ هذه المعضلة مع نظرية الـ Abiogenesis ولا مع نظرية التطور, بل لها تاريخ يمتد الى فلاسفة الإغريق من أرسطو وغيره, فقد صارعوا ليشقوا طريقهم نحو تعريف واضح دقيق وموحد للحياة وفشلوا جميعًا. ولكي تجاري هذه المعضلة, تحاول النصوص العلمية الحديثة أن تشير الى بعضٍ من سمات الكائنات الحية المفقودة في الكائنات الغير حية. وأهم تلك السمات هي: التنظيم, والنمو, والتكاثر, والتطور. ولكن حتى في هذه الطريقة, نجد أن هذه السمات, يفتقدها ما ندعوه حيًا ويمتلك إحداها أو بعضها ما ندعوه جمادًا.

فلتأخذ البلورات على سبيل المثال, فهي منظمة بشكل فريد, بإمكانها أن تنمو, بإمكانها حتى تكرار هياكلها بأمانة, ولكننا لا ندعوها حية.

مثال أخر, تجدر الإشارة له, هو ما يعرف في عالم البرمجيات بـ «الكائن الرقمي Digital Organism». فبإمكان هذا الأخير أن ينمو, ويتكاثر, ويتزاوج, وحتى بإمكانه أحيانًا أن يتطور.(1) ولكن إن قمنا بإدخال هذه الكائنات الرقمية لمملكة الحياة, سيسبب عملنا هذا كثيرًا من الجدل وعدم الإرتياح. قيامنا بوصفها بأنها كائنات حية أو غير حية, لا يغير شيئًا من حقيقتها, وحتى إن قلنا أنها مجرد محاكاة برمجية, فهنالك فرضية علمية تسمى بـ«فرضية المحاكاة Simulation Hypothesis» لها تاريخها الطويل وبحوثها الكثيرة, تفترض بأننا نعيش محاكاة كواقع وليس واقعًا بذاته.

فرضية المحاكاة

على الجانب الأخر, يمكننا أن نأخذ ما نسميه خنازير الطحلب Tardigrades والأرتيميا Brine shrimp على سبيل المثال, والتي ينعدم فيها أي نشاط أيضي, بلا تكاثر, بلا نمو, بلا حركة, لسنوات عديدة, أحيانًا تنجو من حالتها وتعود الى نشاطها الأيضي الطبيعي وأحيانًا لا تنجو وتهلك نهائيًا, ولكن متى يا ترى تحولت من كائنٍ حي الى كائنٍ ميت؟ وإن كانت لا تتوافر فيها أي من النشاطات الأيضية وسمات الكائنات الحية الأخرى, هل نجرؤ بأن ننكر أن الروح التي وهبها الله إياها لا تدب فيها؟

خنازير الطحلب

معضلة التمييز بين ما هو حي وما هو غير حي – أو جماد – تصل أوجها وتتعاظم أهيمتها لدى وكالة الفضاء NASA. فلِكي نعلم ما إن كانت هناك حياة أخرى على بقية الكواكب علينا أن نضع تعريفًا للحياة, وإن كنا نواجه صعوبة في وضع تعريف يكون شاملًا لما نألفه على هذا الكوكب, فكيف بالكواكب الأخرى؟

كتب العالم الأمريكي كارل ساغان – وكان ذلك الوقت يعمل لدى وكالة NASA – مقالًا للموسوعة البريطانية  Encyclopedia Britannica لتعريف الحياة, وضع فيه خمسة تعاريف للحياة, تعريف من الناحية الفسيولوجية, وأخر من ناحية أيضية, وأخر من ناحية كيمياحياتية, وأخر من الناحية الوراثية, وأخيرًا من الناحية الديناميكيا الحرارية. وبعد أن يكمل أيٍ هذه التعاريف كان يضع إستثناءات وتحديات لكل منها. فلم ينجح أي من هذه التعاريف في أن يكون موحدًا ودقيقًا.(2)

كارل ساغان

عام 1990, إشترك مجموعة من العلماء لمساعدة وكالة NASA في مهمتها لإيجاد حياة على الكواكب الأخرى, بوضعهم تعريفًا مناسبًا للحياة. وما خرجوا به كان كالتالي: «نظامٌ مكتفي بذاته, قادر على التطور الداروني».(3) ولكن حتى هذا التعريف يفشل حين نتذكر تلك الكائنات, التي بدئنا أسطر هذه المقالة بذكرها, التي نسميها بـ «الفايروسات».

الفايروسات هي كائنات تتكون من كبسولة بروتينية تحتوي سلسلة من الحمض النووي الرايبي منقوص الأوكسجين DNA, أو الحمض النووي الرايبي RNA داخلها, تقوم بإقتناص خلية ما وتضع مادتها الوراثية بدلًا من المادة الوراثية الأصلية خاصة الخلية, وبهذا تتمكن من السيطرة على العلميات الحيوية للخلية لتكون في خدمتها وتعطي لها إيعازات من شأنها تكوين فايروسات أخرى بأعداد هائلة بنفس المادة الوراثية, وبذلك تكون قد حققت التكاثر. لدى الفايروسات قابلية فائقة جدًا على التكاثر ضمن ألية فعالة جدًا. وهي بكل تأكيد قابلة لأن تتطور ضمن المفهوم الداروني للتطور. وأمثلة تطور الفايروسات ونشوء أنواع جديدة لها كثيرة. وعلى الرغم من ذلك, إعترض العلماء لقرون عديدة على وصف الفايروسات ككائنات حية.

في مقابلة له مع Astrobiology Magazine, يذكر العالم جيرالد جويس Gerald Joyce, وهو أحد العلماء الذي ساعدوا وكالة NASA في وضع التعريف الذي سبق ذكره للحياة, يذكر أن الفايروسات لا يشملها هذا التعريف لأنها ليست مكتفئة بذاتها. فلا يمكن لها أن تتكاثر وتتطور إلا داخل الخلايا التي تصيبها.(4)

الفايروس

ولكن نفس الشيء يمكن تطبيقه على العديد من الطفيليات التي نتفق جميعًا أنها حية, مثل تلك الديدان المعوية المتعطشة للدماء, ونبات الحامول Cuscuta وغيره من الطفيليات النباتية التي تمتص عصارة النباتات الأخرى, والفطريات التي تمد جذوعا لتتغذى على جثث العناكب التي قتلتها. جميع هذه الأمثلة وغيرها الكثير, تعتمد على المستضيف في حياتها وتكاثرها وتطورها كما يعتمد الفايروس على الخلية التي يصيبها. إلا أننا لا نشك ولو لوهلة في كونها حية.

بعد عشر سنوات من العمل مع وكالة NASA للفضاء, ترك جيرالد جويس Gerald Joyce الوكالة مهتمًا ببحوث كانت نتائجها تدحض وبشدة التعريف الذي وضعه هو وزملائه من العلماء للحياة. ففي مختبرهم, هو ومجموعة من زملائه, قاموا بإيجاد جزيئتين إثنتين من الحامض النووي الرايبي RNA, بإمكانهما صناعة نسخ لإحداهما الأخر بشكل مكتفئ ذاتيًا, بوضع متواليات من النيوكليوتيدات – أي وحدات بناء كل من الحامض النووي الرايبي RNA و الحامض النووي الرايبي منقوص الأوكسجين DNA.(5) على الرغم من أنه لا يمكننا التأكد بشكل لا يدعو للشك, ولكنه من الممكن القول بأن قبل 4 مليارات سنة كان الحساء البدائي Primordial Soup يحتوي على هذه الجزيئات المكتفئة ذاتيًا, تكونت من النيوكليوتيدات التي كانت تطوف بشكل حر. كون هذه الجزيئات مجرد أجزاء من الحامض النووي الرايبي RNA, فهي أبسط حتى من الفايروسات, وكونها مكتفئة بذاتها, وقادرة على التكاثر والتطور, يعترف جيرالد جويس أنها تتفق مع التعريف الذي وضعه للحياة, إلا أنه يتردد في وصفها حية.

جيرالد جويس

لماذا يا ترى نشهد هذا التناقض؟ لما لا نستطيع أن نتفق حول موقفنا من الفايروسات بوصفها حية أو غير حية؟ أعتقد لأننا نحاول تعريف شيء ليس له وجود. أعتقد أن الحياة مفهومٌ وليس واقعًا.

النموذج العقلي والمفهوم المحض:

لكي نفهم هذا الطرح بشكل أفضل علينا أولًا أن نميز بين النماذج العقلية والمفاهيم المحضة. النموذج العقلي هو الملاحضة التي تحصل عليها, حين تسقط فوتونات الضوء مثلًا على عينيك ليكون لديك صورة حيوانٍ ما فلنفترض أنه كلبًا صغير يمتلئ جسده بالفرو الجميل. ما تم بناءه من صورة في دماغك هو نموذج عقلي, أما إذا وصفته بأنه كلب, فذلك مفهوم محض. فمثلًا لو قمنا بجمع جميع الكلاب التي وجدت يومًا على الأرض ووضعناها أمامك فتسجد صعوبة كبيرة في وضع تعريف يميز لك بين ما هو كلب وما هو ذئب. نفس الأمر سيحصل لك لو جمعنا لك كل النباتات التي وجدت يومًا ما على الأرض وطلبنا منك أن تضع تعريفًا يميز بين الشجرة والشجيرة.

عملية تصنيف النماذج العقلية الى مجموعات بحسب مفاهيم معينة, هي عملية مفيدة جدًا في تعاملنا اليومي معها. فمن الجيد أن نميز الذئب عن الكلب, ونميز الشجرة عن الشجيرة, ولكن يبقى أن صفتي «الشجرة» و«الكلب» هما مفهومين قليلا الصلة بالواقع, ووجودهم بشكل أفراد أكثر صلة بالواقع. كذلك الحال مع ما هو ميت وما هو حي, فمن الجيد – والمفيد لأسباب تطورية واضحة – أن نميز بين ما هو حي وما هو ميت, ولكن يبقى أن الحياة ليست سوى مفهومًا قليل الصلة بالواقع, والوجود على كوكب الأرض بشكل أفراد أكثر صلة بالواقع. لقد كتب في هذا الأمر العالم البريطاني البيولوجي ريتشارد داوكنز Richard Dawkins واصفًا إياه بـ «العقل التقطعي Discontinuous Mind», أي أننا نحب دومًا أن نصنف ما نراه, إلى مجاميع مختلفة, ولابد أن يكون هنالك ثغرة ما تفغر فاها بين هذه المجاميع, ثغرة لابد لها أن توجد بين ما نسميه «شجرة» وبين ما نسميه «شجيرة», وبين ما نصفه «حي» وبين ما نصفه «ميت». ولكن هذه الثغرة وهذه المجاميع ليست حقيقية البتة.

يذكر ريتشارد داوكنز, في مقالته Gaps In The Mind, التالي:

تعد هذه الطريقة في التفكير خاصية مميزة لما أود أن أسميه «العقل التقطعي Discontinuous Mind». نحن نتفق جميعًا على أن المرأة التي يبلغ طولها ستة أقدام إمرأة طويلة, وأن المرأة التي يبلغ طولها خمسة أقدام ليست طويلة. تغرينا الكلمات من نوع طويل وقصير بأن نضع العالم قسرًا في فئات نوعية, ولكن هذا لا يعني أن العالم في حقيقته مضطرب إضطرابًا فيه تقطع بثغرات. لو أن القارئ أخبرني أن طول إمرأة يبلغ خمسة أقدام وتسع بوصات, ثم طلب مني أن أقرر ما إن كان ينبغي بالتالي أن نقول عنها طويلة أو لا, سأهز كتفي وأقول «إن طولها خمسة أقدام وتسع بوصات, ألا يخبرك هذا بما تحتاج لمعرفته؟» ولكننا بشيء من الكاريكاتير سنجد أن العقل التقطعي سيذهب الى المحاكم ليصل الى قرار – ربما بتكلفة باهضة – عما إذا كانت هذه المرأة طويلة أم قصيرة. والحقيقة أني لا أكاد أكون في حاجة لأن أقول إن الأمر فيه كاريكاتير. فقد ضلت محاكم جنوب أفريقيا طيلة سنوات تؤدي بنشاط مهمة إصدار الأحكام عما إذا كان أفراد معينون ولدوا من والدين مختلطين يعدون من البيض؟ أو السود؟ أو الملونين؟ يعد نظام الفصل العنصري في الحقيقة أحد النصب التذكارية في التاريخ لإستبداد العقل التقطعي.(6)

بعض الأشياء التي نصفها بأنها غير حية, تحمل شيئًا من تلك السمات التي يفترض أن لا نجدها إلا في الكائنات الحية. ونجد على الجهة الأخرى أن بعض الكائنات الحية لا تحتوي على هذه السمات, ولا نشك في وصفنا إياها في الحية. وعلى الرغم من ذلك, تجدنا مصرين على أن نفصل الكائنات على سطح الأرض الى كائنات حية وكائنات غير حية, وأن نبحث عبثًا عن هذا الخط الفاصل. علينا القبول بأن مفهوم الحياة له قميته البراغماتية في أغراضنا البشرية, ولكنه لا يعكس واقع الكون خارج الدماغ البشري.

مثلها مثل كثيرٍ من الحقائق العلمية, لا تتفق هذه مع حدسنا الفطري. وعلى الرغم من أنها تقلل من غرورنا وشعورنا بالتميز, إلا أنها تعطينا حريةً بمشاهدة وحوش يانسن وهي تتحرك حركتها الإنسيابية الرائعة, دون أن نقف حائرين ما إن كنا سنصفها حية أم لا.


المراجع:

(1) McKinley, Philip, et al. “Harnessing digital evolution.” IEEE Computer 41.1 (2008): 54-631

(2) SAGAN, CARL. “Definitions of life.” The Nature of Life: Classical and Contemporary Perspectives from Philosophy and Science (2010): 303

(3) Luisi, Pier Luigi. “About various definitions of life.” Origins of Life and Evolution of the Biosphere4-6 (1998): 613-622.

(4) Leslie Mullen, Astrobiology Magazine, Defining Life: Q&A with Scientist Gerald Joyce, August 01, 2013

(5) Lincoln, Tracey A., and Gerald F. Joyce. “Self-sustained replication of an RNA enzyme.” Science5918 (2009): 1229-1232

(6) Dawkins, Richard. “Gaps in the Mind.” The great ape project (1993): 80-87.