كثيرا ما يُطرح على الملحد هذا السّؤال: ما الفوائد والمكاسب التي سيجنيها الملحد جرّاء إلحاده؟ وكأنّه من المفروض أن يقدّم الإلحاد امتيازاتٍ وعروضاً تجاريةً لإغراء الزّبائن! ألا يكفي الملحد اقتناعه أنّ هذا الموقف هو الموقف الصّحيح من قضية وجود إله؟! لكن لا بأس بالفعل… لنحاول أخذ هذا السّؤال بجديّة.
إذا كان الإنسان سيقارن بين موقف الإيمان، وموقف الإلحاد من وجهة نظرٍ براغماتيّةٍ نفعيّة، وجب أن يكون لموقف الإلحاد فوائدٌ ما على الفرد والمجتمع، ومن باب مناقشة هذا الطّرح البراغماتي للإلحاد، وبغضّ النّظر عن صحّة الموقف، وصحّة فرضيّة وجود إلهٍ من عدمها سأطرح بعض الفوائد العمليّة (المتخيّلة) لموقف الإلحاد على الجانبين الفردي والاجتماعي، وأقول: (متخيّلة) لأنّه لا يوجد عمليًّا من يتبنّى الإلحاد لهذه الأسباب النّفعيّة على الرّغم من أنّها حقيقيّةٌ تماماً، حيث إنّ الدّافع الوحيد لإلحاد إنسانٍ أو إيمانه هو القناعة الشّخصيّة، لا غير.
أولاً: الإلحاد يجرّد الإنسان من أعباء الضّغوط النّفسيّة الدّينيّة: فالملحد لا يسهر اللّيل مشغولًا بمصيره بعد الموت، ولا تؤرقه مسألة الحساب والعقاب، ولا تشغل باله أحلام وأمنيات الثّواب، وبهذا يرفع الملحد عن كاهله الكثير من الضّغط النّفسي الذي يعيش فيه المؤمن، ويشغل حيّزًا كبيرًا من حياته النّفسيّة.
ثانيًا: الإلحاد يمنح الفرد القدرة على محاكمة الأشخاص بشكلٍ موضوعيٍّ أكثر: فالملحد لا يعطي قيمةً اجتماعيّةً لمن لا يستحقّها على أساسٍ ديني؛ أي لن يقدّم الاحترام والتّبجيل والطّاعة والتّبعيّة لمن لا يستحقّها فعلًا، فالشّيخ والمُلّا والبابا والكاردينال والحاخام بالنسبة له لا يختلفون عن أيّ إنسانٍ آخر، وفي ذلك اقترابٌ أكثر من مفهوم العدالة الاجتماعيّة، وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه.
ثالثًا: الإلحاد يمنح الملحد فرصةً لاكتشاف ذاته: ففي غياب وجود الغاية والقيمة المستوردة المفروضة على الملحد من الخارج، تكون للملحد فرصةٌ حقيقيّةٌ لتشكيل نفسه وقناعاته ومساءلة غاياته الحقيقيّة في الحياة بشكلٍ موضوعيٍّ حقيقيٍّ نافعٍ دون التّأثيرات الخارجيّة المفروضة عليه، والتّي تجبره على ما يجب أن يكون، وما هدفه المفروض، فهذه التّأثيرات غالباً ما تصبّ في مصلحة الآخرين.
رابعًا: الإلحاد يمنح الملحد المناعة ضدّ معظم الادّعاءات الفاسدة التي تعتمد على العاطفة في إثبات نفسها: فقول فلانٍ وفلان، وكلام القسّ، ورأي الشيخ…كلّ هذا يصبح دون قيمةٍ بحدّ ذاته إذا لم يكن صحيحًا و مدعومًا بأدلّةٍ وبراهين، وبذلك يصبح الملحد قادرًا على الحكم على المواقف والأخبار، ولا يقوم بقبول خبرٍ أو فكرة فقط لأنّ شخصًا ما يرتدي قبّعةً مضحكةً قالها.
خامسًا: الإلحاد يمنح الملحد القدرة على إعادة مساءلة الأخلاق بحياديّة: تصبح الأخلاق غير مرتبطةٍ بنصٍّ أو عقيدة، وتعود لمنشئها الأصلي، وهو مفهوم المنفعة والضّرر، وهل الفعل المراد محاكمته أخلاقيّاً ضارٌّ أم نافع، جميلٌ أم خبيث بحسب المجتمع والقيم الإنسانيّة الأساسيّة؟؟؟ وبهذا يرتقي الملحد أخلاقيًا.
ومن جهة المنافع الاجتماعيّة للإلحاد، والتي وجب القول والتّأكيد على أنّها (افتراضيّة) أيضًا، حيث إنّه لا يوجد مجتمعٌ أو دولةٌ ملحدةٌ على أرض الواقع إلى الآن، وهنا أفرّق بين الدّولة العلمانيّة، والدّولة الملحدة، حيث أنّ الدّولة العلمانيّة تمنح كلّ الأديان والمعتقدات قيمةً متساويةً عادلة، بينما الدّولة الإلحاديّة التي (أفترضها) هنا تتبنّى موقفًا سلبيًّا من الأديان، وتعتبرها غير ذات قيمة، وأذكرُ من هذه المنافع (الافتراضيّة) التي يتمتّع بها المجتمع الإلحادي (الافتراضي) التّالي:
أولاً: الدولة الإلحاديّة -إذا وُجِدَتْ- سوف تتمتّع بأولويّاتٍ ٍاقتصاديةٍ سليمةٍ نافعة: ففي ظلّ غياب وضع الغايات الغيبيّة على رأس أولويّات الدّولة فإنّ الدّولة ستوجّه مصروفات هذه الغايات الأيديولوجيّة والدينيّة إلى قنواتٍ أخرى، يكون المجتمع في أمسّ الحاجة إليها كإصلاح البنى التّحتيّة والتّعليم والقضاء والصّناعة والزّراعة… إلخ فلا تُنفق ميزانيّة الدّولة من أجل بناء مسجدٍ ضخمٍ، أو كاتدرائيّةٍ كبيرةٍ، مع وجود جياعٍ ومحتاجين وبنى تحتيّةٍ سيّئة، كما هو الحال في عالمنا العربي السّعيد .
ثانيًا: الدولة الإلحاديّة إن وُجِدَتْ سوف تتمتّع بموقفٍ إيجابي أكثر من غيرها: ففي ظلّ غياب الكراهيّة العنصريّة الدّينيّة في أيديولوجيا مؤسّسة الدّولة، سيكون من الطّبيعي أن تكون مواقف الدّولة من باقي الدّول أكثر إيجابيّة، حيث إنّ كلّ الأيديولوجيات الدّينيّة تضع الدّول المتديّنة في حالة عداءٍ وحرب، أو بأفضل الأحوال حالة ريبةٍ وسوء نيّةٍ من الدّول المخالفة لها عقائديًّا، وحتّى إن لم يكن هناك تبريرٌ سياسيٌّ لهذا الموقف، ولنا في السّعوديّة وإيران خير مثالٍ، فعلى الرّغم من وجود الكثير من العوامل الإيجابيّة الاقتصاديّة والجغرافيّة والسّياسيّة التي سيراها أيّ إنسانٍ دافعًا لوجود علاقاتٍ طيّبةٍ بينهما، نجد أنّهما في حالة عداءٍ دائمٍ بسبب تأثير (الدّوغما) الدّينيّة الطّائفيّة .
ثالثًا: الدّولة الإلحاديّة إن وُجِدَتْ ستكون دولةً رائدةً في مجال التّكنولوجيا: ففي ظلّ عدم إعطاء قيمةٍ للتّفسيرات السّحريّة والخارقة للطّبيعة فإنّ هذه الدّولة ستُولي اهتمامها لما يقدّم الحلول الحقيقيّة للمشاكل، وبذلك سيكون استثمارها في العلم والتّكنولوجيا أمرًا حتميًا، ما يعني أنّ ذلك الاستثمار سيزيد من فرص التّعليم والتّدريب والعمل في هذه المجالات، وبالتّالي، وتدريجيًا سينمو المستوى التّقني والصّناعي للدّولة، لتزيد الرّفاهيّة في المجتمع مع توفّر الحلول التّكنولوجيّة لمشكلاتها .
رابعًا: الدّولة الإلحاديّة -إن وُجِدَتْ- سوف تتمتّع بنسبةٍ أقلّ من استغلال جهل النّاس: ففي ظلّ عدم اعتبار أيّة قيمةٍ لرجال الدّين، حيث سيتمّ تصنيفهم على ما هم عليه حقيقةً كطفيلياتٍ في المجتمع تطالب بامتيازاتٍ ومكاسبَ دون تقديم أو إنتاج أيّ شيءٍ بالمقابل، على اعتبار أن مهنتهم تنحصر في بيع علاجٍ وهميٍّ لمرضٍ وهميٍّ لن يتمتّع به الزّبون أبدًا، فيوعد باستلامه بعد أن يموت، فنتيجةٌ لما سبق ستتناقص نسبة تواجد من يستغلّ جهل وبساطة النّاس على أساسٍ عقائديٍّ وعاطفيٍّ، وهي نسبةٌ كبيرةٌ جدّاً من شريحة النّصّابين في أيّ مجتمعٍ.
خامسًا: الدّولة الإلحاديّة -إن وُجِدَتْ- سوف تتمتّع بنسبةٍ أقلّ من الجرائم : ففي ظلّ ارتفاع نسبة الثّقافة والتّعليم، وغياب وجود المبرّرات الغيبيّة لفعل الشّر، مثل فكرة المغفرة، أو الأوامر والتبريرات الدّينيّة لمخالفة القانون، أو القيام بما هو مؤذٍ اجتماعيًا وإنسانيًا، ستكون نسبة الجرائم قليلة، كما ستقلّل هذه النّظرة لرجال الدّين والمؤسّسة الدّينيّة وجود ولاءاتٍ خاصّةٍ تكون في معظم الأحيان منافسةً للولاء للقانون والدّولة يتبّع فيها المريدون لقانون الشّيخ أو القسّ الخاصّة، ويبرّرون عن طريقها أفعالهم المخالفة للقانون.
على ضوء ما سبق حاولتُ حصر بعض الأفكار التي جالت في خاطري، وأنا متأكدٌ من أنّ الكثيرين سيكون لديهم ما يمكن إضافته لهذه القائمة، لكن أحبّ أن أؤكّد على نقطتين هامتين:
أوّلًا: هذه المنافع على الرّغم من منطقيّتها إلّا أنّها (افتراضيّة)، فالفرد الملحد لا يلحد لهذه الأسباب، و المجتمع الملحد غير موجودٍ على أرض الواقع .
ثانيًا: الإلحاد لا يعني بالضّرورة أنّ الإنسان سيكون أخلاقيًّا ومثقّفًا وعادلًا، وظهور دولةٍ ملحدةٍ لا يضمن أنّها ستكون جنّة الرّفاهيّة والعدل والاحترام والعقل بالضّرورة، لكنّ الإلحاد بالتأكيد لن يجعل الفرد جاهلًا ومغيّبًا وغير أخلاقيٍّ ومتحيّزًا كارهًا للآخر لأسباب دينيّةٍ وعقائديّة، والإلحاد سيترك للفرد ليحدّد ذاته، فمن يريد أن يكون -شرّيراً أم خيّراً- بشكلٍ صحيٍّ سيحترم إنسانيّته أوّلًا وأخيرًا .
منشورات ذات شعبية